In the Press

 
 
«غايب».. رواية الحصار فـي شريط سينمائي

يوسف ضمرة

 هذه الرواية الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2004 هي الرواية الثانية لبتول الخضيري، بعد روايتها الاولى «كم بدت السماء قريبة»، وهي الرواية التي لاقت نجاحا نقديا لافتا منذ صدورها، وقد ترجمت الى لغات عدة.
في هذه الرواية، ترصد المؤلفة احوال المجتمع العراقي تحت الحصار الذي فرض عليه طوال اربعة عشر عاما، ويتبين ان هنالك حصارات ينوء تحتها العراقيون وليس حصارا واحدا!
تتنقل المؤلفة بين ادوار عمارة سكنية في بغداد، وتقيم من خلال الرواية بضمير المتكلم علاقات مع سكان تلك البناية، وقد سمح لها هذا التنوع بين المتوزعين على ادوار البناية، ان ترصد سائر الهواجس والاوجاع والاحلام، وسائر اشكال المعاناة الانسانية تحت حصار خارجي، يتمثل في غياب لابسط متطلبات الحياة البشرية العادية، من مواد غذائية وطبية وما شابه ذلك، وتحت حصار داخلي يتمثل في بريق السيف السلطوي المسلول من غمده ابدا!
واللافت في هذه الرواية هو هذه الشخوص الكرتونية، والوقائع الغريبة في بساطتها وفي سحريتها معا، الامر الذي يجعل من هذه الرواية واحدا من الاعمال السردية القليلة الساخرة في الادب العربي. وهي ملاحظة ينبغي لنا الوقوف عندها، باعتبارها ظاهرة بدت تنتشر في غير ساحة عربية! فقد قرأنا مؤخرا مجموعة قصصية لمحمود شقير تحت عنوان «صورة شاكيرا»، كما اصدر الكاتب نفسه قبل ايام مجموعة اخرى بعنوان «ابنة خالتي كوندوليزا»، واصدر الكاتب ابراهيم اصلان مجموعة تحت عنوان «حكايات فضل الله عثمان».
واللافت في هذه الاعمال الاخيرة هو انها طالعة من اكثر بقاع الوطن العربي بؤسا وشقاء ومعاناة.. فقصص محمود شقير تتناول المأساة الفلسطينية تحت الاحتلال الصهيوني. وقصص ابراهيم اصلان تلامس اوجاع المحرومين والمسحوقين المصريين في ظل الانفتاح والعولمة، ورواية بتول الخضيري تندرج في هذا السياق.. وبمعنى آخر، فقد بدا واضحا ان قسوة المعاناة ا لبشرية، تتيح للكاتب حرية الحركة والاختيار، وتمكنه من رؤية هذا العالم القاتم بعين فوق طبيعية، الامر الذي يجعل الكاتب قادرا على رصد هذه المعاناة بمقدار هائل من السخرية، التي تبدو وكأنها الملاذ الاخير، او التقنية الاكثر ملاءمة لواقع الحال.
لقد جاء في مقدمة الطبعة الانجليزية لرواية «العسكري الطيب شفيك»، ما معناه ان شفيك هو السيد اي شخص، والسيد شفيك -كما نعلم- هو الشخصية الرئيسة في رواية تتناول الحرب الكونية الاولى من زاوية ساخرة، تقوم على تحويل التراجيديا الى ملهاة، وعلى قاعدة المثل العربي الشهير «شر البلية ما يضحك».
وتتبع الكاتبة بتول الخضيري خطوات المؤلف التشيكي «هاشيك»، وهي تتناول الوقائع اليومية للحصار، وما رافقه من حرب سابقة وملازمة، ولعل الكاتبة لم تجد ما هو افضل من هذه الشخصيات الكرتونية للنفاذ الى جوهر الواقع العراقي، ومحاولة الكشف عن الخلل الكامن في البنية العراقية من جهة، وفي المعادلة السياسية الدولية والاقليمية من جهة اخرى، يقول عادل المتخصص في عمل الاطراف الصناعية: المشكلة هي ان الالوان بدأت تنفد عندنا، لم يبق لدينا الوان مناسبة، المتوفر في السوق هو الاخضر والازرق، تخيل الناس يتنقلون باطراف ملونة.. كيف تقنع طفلا في التاسعة من العمر ان يرتدي كفا من خشب ازرق ويذهب به الى المدرسة؟؟
واللجوء الى مثل هذه الشخوص يطرح بالضرورة تساؤلا عن ماهيتها، وعن كينونتها، وعن تاريخ وجودها، وما اذا كانت تشكلت اثناء الازمة ذاتها، ام انها موجودة دائما، ولكنها تنتظر الوقت الملائم للظهور والفعل!
وبالنظر الى شخصيات الخضيري، نرى انها موجودة من قبل، وربما لا نرى فيها -في الاوقات الطبيعية- ما يلفت الانتباه، فابو غايب قبل الحصار بدا شخصا عاديا وطبيعيا، محبا للرسم، ويعمل مرشدا سياحيا.. لكن الحصار هو الذي تكفل باخراج السيد شفيك من داخله! وبمعنى اخر، فان في كل منا «شفيكه» الخاص به، والذي يتحين الاوقات المناسبة للاعلان عن نفسه.
وهكذا، فان ثمة علاقة جدلية بين الشخصية الروائية والواقع الموضوعي، بما ينطوي عليه من مكان ومناخات سياسية واجتماعية واقتصادية، فالحصار، وتدهور الوضع الاقتصادي في العراق، كان سببا وراء الافكار التي برزت عند ابي غايب وزوجته والآخرين، ولان الخيارات في ظل اوضاع كهذه غالبا ما تكون محدودة، فان من الطبيعي ان تبرز افكار غريبة يتعذر عليها الظهور في الاوقات الاخرى، وبالمقارنة ما بين هذه الافكار والوقائع التي تجترحها مثل هذه الشخصيات، وبين الحصار والقصف والموت والدمار والخراب، تتبلور كرتونية هذه الشخوص وافعالها!
فعاشق الفن التشكيلي ابو غايب، يجد الحل في تربية النحل لانتاج العسل، ولنا ان نتخيل ما سوف يترتب على هذا الفعل من مشكلات، وبخاصة بينه وبين زوجته.. وام غايب ترى في الحياكة، وتصليح الملابس مدخلا لاجتياز الازمة الاقتصادية الفردية، ولكن هذه المهنة ايضا لها من الرتوش ما يجعلها مدعاة للسخرية.
ولكن ما هو اكثر اهمية من هذا وذاك في الرواية، هو الدور الذي تلعبه قارئة الفنجان «ام مازن»، واهمية هذا الدور لا تتعين في قراءة الفنجان في حد ذاتها كفعل.. فهو فعل طبيعي في الاوقات العادية، ولكنه لن يبدو كذلك تحت الحصار.
ففي الوقت الذي يعاني المجتمع العراقي من تبعات الحرب والقصف والحصار الخانق، نقف امام بعض الشخوص التي تسلك نهجا يبدو وكأنه يتجاهل ذلك كله، او انه ربما يحاول ان يحول حالة الحصار الى واقع طبيعي من خلال التأقلم معها، والقيام بافعال عادية، الامر الذي يسهم في «كرتنة» هذه الشخوص وافعالها، كالبحث الدائم عن وصفات للحب والكره والزواج والطلاق وما شابه ذلك، الى ان يصل الامر الى مشاجرة كرنفالية في منزل ام مازن بين سيدتين تتقاسمان رجلا واحدا!
ولان واقع الحصار يؤدي الى ارباك حقيقي في المجتمع العراقي، فان الكاتبة لا تنسى هذه الحال في التقنية الروائية التي تبدو منسجمة تماما مع هذا الواقع، فثمة انتقال سريع بين المشاهد الروائية، وثمة قطع سينمائي وحراك مسرحي.. اي ان هنالك مواءمة فنية كثيرا ما يتم تجاهلها في اعمال روائية اخرى.
لقد رأت الكاتبة ان استخدام اكبر عدد ممكن من الصور في المجتمع العراقي، وتركيبها بطريقة ما، يعطي صورة اكثر تعبيرا عن الواقع الموضوعي الذي تتناوله، وربما هذا هو ما جعلها تبتعد عن البطولة بالمعنى التقليدي او السائد.. فعلى رغم التركيز على ابي غايب وزوجته، الا اننا لا نستطيع استكمال المشهد الروائي من دون ام مازن البصارة، ومن دون الحلاق سعد، والمخبر عادل، والاستاد والعم سامي وآخرين، على رغم ان الرواية كلها تدور على لسان الفتاة دلال، ابنة الشقيقة المتوفاة لزوجة ابي غايب، الذي يرفض ان يكنى بأبي دلال في مجتمع شرقي ابوي، ويفضل اسم «ابو غايب» على رغم تبنيه لدلال التي فقدت والديها وهي رضيعة.
فالبطولة هنا ليست لشخص، بل لمجتمع كامل.. لوقائع غريبة ساخرة، ملبدة بالاسى والحزن، ولكن السؤال الاكثر الحاحا هو: لماذا هذا العنوان للرواية؟
فغايب هو الابن المفترض.. الولد الذي لم يأت، ولم ير النور، وليس هنالك من شخص موجود يدعى غايب، فلماذا يكون هذا عنوانا للرواية؟
لان مفردة الغياب هي الاكثر سطوة في الرواية، فكل شيء غائب.. الطفولة، والحرية ومستلزمات الحياة الضرورية والرجال الذاهبون الى الحرب والطمأنينة والاستقرار.. الى ان وصل الامر الى الاحلام كما يشير سعد «لست مسؤلا عن المأساة، يجب ان نفكر في ان نحيا بشكل طبيعي، وان تكون لنا احلام مشروعة».
اما دلال فتقول «اخرجوا ايام طفولتي في صناديق خشبية كبيرة تحوي كراسي معدنية، واجهزة تكبير الصوت. سيتخلصون من اشرطة عرض الافلام، اخذوا معهم هانز كريستيان اندرسون، ونورمان ويزدوم، واميرة حبي انا».
كان هذا وهي تشير الى نادي العلوية وهو يبيع اثاثه ومحتوياته، التي نشأت دلال بالقرب منها، وعلى تماس مباشر بها.
وتقول دلال مشيرة الى هذا الغياب بشكل غير مباشر «الجميع الان يتكلمون عن زمن الخير، وزمن ما بعده، اوقات ما قبل الحرب، واوقات ما بعدها، الحياة ما قبل الازمة، والحياة ما بعدها».
ويؤكد سعد هذا الغياب بقوله «لا تفكري كثيرا في هذا الموضوع، كل منا لديه نقص ما. ولا يفوتنا ان نشير في هذا السياق الى غياب الازواج والاحبة.. منهم من قضى نحبه  ومنهم من ينتظر، ومنهم من غاب خارج البلاد وغاب بلا اي خبر!
واخيرا، فليس من الحكمة ان نصدر حكما اخلاقيا او سياسيا على رؤية الكاتبة للواقع والتغيرات والاسباب والنتائج، ولكننا نكتفي بالقول ان لديها حسا نقديا ربما كان الكثيرون يفتقدون اليه في معالجة راهن كهذا. فهي لا تكتفي بالاشارة الى ما سببه الحصار من تدمير وخراب ومعاناة، بل تتعدى ذلك للنفاذ الى بعض التشوهات التي اصابت الشخصية العراقية جراء الاستبداد الذي جثم عليها!
غايب رواية الحصار في شريط سينمائي خضع ليد مونتير متمرسة، ولعين مصور خبر حدة الزوايا وانعكاسات الضوء، وسحر الالوان، فكان له هذا التأثير كله!