In the Press

 
 
خاطرة بين المسافات - فضاء الغياب المتواصل في رواية (غايـــــــب)

محمد الاحمد / كاتب من العراق
AZZAMAN NEWSPAPER --- Issue 2028 --- Date 8 / 2 /2005
جريدة (الزمان) --- العدد 2028 --- التاريخ 8 / 2 /2005

جملٌ حادةٌ تمثل أمام قارئها بشفافية بليغة تميزت بالكشف عن كل ما غُيّبَ من صفحات الصوت العراقي الجليل، وهو يطالب كبقية خلق الله، في حق له في العيش الكريم، (دلال) بطلة الرواية جاءت علي مدي الصفحات كصوت يستصرخ الماً من عزلة قصية، وحولها عالماً تتزاحم الحيطان المتراصة، فتنهشها من الداخل سياط الجوع والحرمان. رواية (غايب) تحكيها انثي عراقية تقول بانها نجت من حادث سيارة كانت تقل والدتها ووالدها مهندس النفط الذاهب الي وظيفته الجديدة في صحراء سيناء, وتنتقل للعيش في العراق بين جدران شقة بشارع السعدون مع خالتها وزوجها العقيم (زوج الخالة) مثال شاخص لشخصية (من الطبقة المتوسطة العراقية, فهو موظف كان محترماً في السياحة, له تجارب في الرسم فشلت ليتحول الي صاحب مجموعة بارزة من لوحات التشكيل العراقي, ومثقف ممتاز في تاريخ العراق علي مدي عصور- الرواية) ويكنيه الناس كحال المتزوجين اللذين لم ينجبوا، باللهجة العراقية المحكية بـ(ابو غايّب).. رواية مشاهد تتري بانسياب جميل تدون تاريخ طبقة متوسطة وهي تتفكك وتضمحل تحت القسوة الهمجية والتخلف البليغ في احداث رواية بديعة متواشجة الفصول، ثرية الصور، نبيلة الغاية، خطها قلم أنثي عراقي، باح بإختلاجات قاهرة بقيت كظيمة، برغم ما تركته من دمار في الذات العراقية كونها اختلاجات ذات بعد سايكلوجي، قلما تمكن قلم بتقنيتها، مثلما تمكنت الكاتبة (بتول الخضيري) بلقطات كانها (سينمية) تنبعث من امرأة سقط فوقها جدار الحصار، فاقصاها الي ابعد نقطة من حياتها الطبيعية، بان تكون في ما تحلم وتصبو، فتكالبت عليها ويلات الحروب المتوالية، ثم فجعتها الظروف القاهرة بالأب و الأخ والزوج والابن، وصارت عزلتها قصية، ومنتهكة. صارت هي الغائبة كـ(أم) وكـ(أخت) وكـ(زوجة) عن حياتها من بعد ان غاب او غُيَّبَ عنها الصنوّ الذي يشاركها الحياة، والدرب، غاب او غُيَّبَ عنها بقوة قسرية لتعيش في مساحة عريضة من الحرمان المتواصل بالحرمان الممض، وحيدة بيت لا يطل الا علي الجيران، و لا يطل عليها سواهم، فادي الي تفكك مهول في مساحة كل العلاقات، بلغة عذبة كاشفة رَويَّة. عن مكان صغير حوي كل ما في العراق من اطياف، واختلاف، بسحراختزل السرد الروائي، وايقظ في القارئ العراقي كل ما في ضميره من رفض لذلك الضنك الكثيف الذي كان يمرّ به. مكان في وسط العاصمة، ويطلّ مشهده رغم فسحته الضيقة علي ضوضاء مهولة مرعبة، جعلت انسانها منكمشماً من الخوف محدود الخطي خبيرا بالممنوع، ولا يعلم بما هو مسموح، يخاف من ظله الملازم، ويخاف من حيطانه التي بقيت لها آذان وتسمع حتي حشرجاته. عالم روائي يسير بفخر ليكشف ما يمكن ان يحجبهُ التاريخ (الرواية تقول ما يحجبه التاريخ- القول لفونتيس). رواية احداث تروي اشاراتها مشيرة بأمانة واضحة الي اشخاص مرّوا من امامنا مُلحقين بعجلة الحياة، بعجالة لن تنسي، ولكنهم يحملون علي الرغم من ضيق العيش كرامة، واملاً ما يجعلهم ابعد مما يكون فيه الانسان في ظرفهم الاقتصادي الصعب، الذي ابتكره لهم حاكمهم السابق لأجل ان يكونوا عبيدا اذلاء يركضون بما في وسعهم وراء اللقمة المقننة، ولم يكونوا علي هوانِ ذواتهم. فرغم كل شيء بقوا اناسأ غير منسيين غالبا ما كان ابداعهم يدلّ عليهم، ويشخص بهم كالورد في الجنان العراقي البديع، لتجدهم حاملين همهم الكبير بانهم علي الدوام اصحاب بصمة شاخصة في مسيرة هذه الحياة. كانوا ممتلئين بما نابهم هماً، وثقافتهم عملهم، وعالمهم؛ كونهم شغوفين بما لديهم من امل نزير، ولكنه يعطيهم دافعا لان يكونوا به اكثر عطاء، وبما يدخلونه من سعادة علي قلوب غيرهم. انسانيتهم تفوق الشظف النزير من العيش، وغالبا ما تجدهم يحلقون في سماء انسانية، وتزخهم بمطرها الوافر الطيب. فصول الرواية انتشرت في عمارة مشتركة الجدران، ومتقابلة الأبواب، الباب البعيدة تعرف مايدخل منها الباب القريبة، وكل بيت فيها تحت بصر الجار، و الكاتب. ففي العمارة (وحولها, مهندس تحول قصاباً, ومتعلم آخر تحول حلاق نساء, واستاذ جامعي آثر العزلة, وممرضة تتاجر بالأعضاء البشرية, و(ام مازن) التي تصنع الحجاب وتفك الألغاز بفنجان القهوة وتحضِّر ارواحا بالطب الشعبي وخلطات أعشاب كحلول للأزمات الاقتصادية والنفسية والغرامية لسكان العمارة وغيرهم, وكذلك عندها الأمل (غايب) ايضاً, فهي تبيع خلطات شعوذة الي من حاصرتهم الاوهام وباتوا حيال شراسة النظام المسلط علي رقابهم متهدمين لا يقوون علي شيء. (الي جانب المنحل تنصب خيمة يحرسها جندي تكتشف فيها (دلال) مجموعة من الجثث التي يحملها زوج الخالة مسؤولية هياج النحل وعراكه وموته لاحقاً, قذيفة تخترق شقة صاحبة خلطات السحر والأعشاب, و(عادل) الماهر في الحب وصاحب الأصابع الرقيقة في عناق الجسد اصابعه مثل بامياء طرية, تجد طريقها الي اسفل- الرواية). هو ضابط امن مهمته مراقبة سكان العمارة مستخدماً حلاق النساء عيناً له, ويستخدم (دلال) ممراً الي القبض علي زوج خالتها بعد فشله في تربية النحل بتهمة تهريب الموروث العراقي، حين قرر بيع ثروته من اللوحات في الأردن بمساعدة صديقته في البلد المجاور. والصديقة الأقرب (الهام) تنتهي سجينة بعد اتهامها بالمتاجرة بالأعضاء البشرية. كل حادث بحديث تواصل الراوية التوثيق بروايتها (تصاعد التلوث البيئي بعد ضرب المفاعل النووي العراقي- الرواية), و(اعدام عدد من التجار بعد اتهامهم بالتلاعب بسعر الدولار- الرواية), و(اعدام عدد من النساء لممارستهن الدعارة- الرواية). صورة تحولات البلاد ووقائعها القاسية، رواية الغياب الرجولي للبلد الذي استقر بين فكين قويين، وراحت الانثي الكاتبة بعينها توثق الاشياء بأحداثها، وتسرد عن كل ما انتهك من طراوتها (زبونة اعترفت لي انها تتخيل ستارة غرفة نومها, عندما تعبث بها نسمة هواء, تصدر حفيفاً هادئاً تتخيل معه حفيف زوجها القادم في ظلمة الغرفة الي فراشها, مع العلم انه توفي قبل سنوات عدة - الرواية). تميزت الرواية بصدقها العراقي وكشفها حيثيات البيت العراقي من جمال وشفافية، وجاءت متواصلة مع روايتها الثانية الموسومة بـ(كم بدت السماء قريبة)، من كاتبة عراقية تستحق الاشادة..




back