In the Press

 
 
صحيفة المدى – بغداد – 3/1/2005

رواية (غايب) لبتول الخضيري: أرشيف العراق بين يدي قارئة الفنجان

فاطمة المحسن
في روايتها الجديدة "غايب" الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، تدخل بتول الخضيري في قلب الحدث العراقي، حيث تقف المصائر عند نهاياتها القصوى. ومثلما فعلت في روايتها الاولى التي كانت مستلة من يوميات فتاة خلال أيام حرب الخليج الاولى، تقارب الثانية الأوقات الصعبة زمن الحصار الاقتصادي، تلك السنوات العجاف التي تولت إعادة صياغة التراتب الطبقي والثقافي لعراق الحاضر.
حظي عمل الخضيري الأول بالكثير من الإعجاب، وخاصة بين عراقيي المهجر، ولعل سر نجاحها يكمن في صلة كتابتها بالحياة المباشرة والحميمية دون أقنعة أو تهويمات فكرية أو سياسية، فهي تتناول شخصيات وحوادث ممتعة تنطوي على نكهة محلية، ويتقدم فيها صوت النساء وعوالمهن الشخصية. تضاعفت قيمة رواية الخضيري الاولى حين اعتبرها القراء شهادة صدرت عن قلم لايحسب على جهة سياسية، ولعل هذا التصور يثقل الاعمال الفنية ويمنع عنها أحكام القيمة المجردة، بل يشوش مقاييس التناول النقدي في أحيان كثيرة.
في روايتها الجديدة تظهر البيئة المدينية لبغداد في تبدل مواقعها وإستجابتها الى الحدث، وهي تحاذيه وتقتحمه، مثلما تجد نفسها في مواقع أخرى تستكمل من خلاله ملامح اناسها.
يتوازى في رواية "غايب" الجهد الاعدادي أو ذاكرة الارشيف مع جهد صناعة الشخصية، فقدر ما تسعى الكاتبة الى الابتعاد عن صناعة النموذج، أو الشخصيات التي تمثل على مسرح الافكار، قدر ما تهتم بالمادة الخام، المادة التجميعية التي تقدم فيها مايشبه الخبرات المكثفة لصناعة النحل والاعشاب الشعبية مثلما تقدم موتيفات لصورة الخسائر المادية والمعنوية التي مر بها الناس زمن الحصار الاقتصادي، وهذه الاخيرة أغلبها عمومية، كتبت في الصحافة العربية والغربية. وفي الظن ان سياق سردها لايحتاج تلك المعلومات المؤطرة على هذا النحو، فهناك استبطان للحدث يبدو على درجة من الانسيابية حين يروي قصة الحصار من خلال انتقال الناس في الاماكن وتبدل أنماط حياتهم ومفاهيمهم، والسارد في هذه الحالة يدخل الخيال ويخرج منه في عملية مبادلة بين التجربة والوعي بدلالاتها. ولعل التناشز الذي يمكن ان يحدث في تصوير الواقع في الرواية التي تقاربه، يظهر في أعمال الكتاب الذين كتبوا عن تجربة لم يعايشوها، ونعني بهم على وجه التحديد كتاب المهجر الذين حاولوا نقل ملامح المجتمع الذي تشكل وهم بعيدون عنه، مع ان بمقدورهم الالتحام مع المناخ العام ومخزون الذاكرة التي تضفي على تلك الاعمال صدقية ودفئاً خاصاً.
عبر عملية البحث والتجميع حاولت الكاتبة التعويض عن نقص المعايشة، وكان أمامها وهي تختبر بيئة العمل، ذخيرة من الذكريات التي تستبطن التقاليد والافكار والمرويات الشعبية، وتدرج ضمنها النكات والوقائع والترديدات والأغاني وطرق التواصل بين الناس، في مجتمع كان يمضي سريعا في درب الانحدار، وقد استخدمتها خلفية أساسية لتأطير مادتها التي تتحدث عن زمن دراماتيكي تقلبت فيه أهواء وأمزجة الابطال ومصائرهم على نحو غير مسبوق.
كان التدهور الاقتصادي والحرب والقمع عوامل أساسية في إرباك إختبارات الناس لانفسهم، وفي تحولات وعيهم المتواترة بدوا وكأنهم يتخبطون في فوضى افعالهم، وهذه الفوضى فرضت على الكاتبة او منحت الكاتبة تلك المساحة الرحبة لاختزال تلك الوقائع وتقديمها بطلاقة وحيوية، ولكنها في عملية المونتاج او إعادة لحمة الحوادث المتخيلة او المفترضة، كانت تفتقد الى قوة التماسك الذي تستطيع بواسطته تجاوز إغراء السرديات المقحمة في الرواية.
ترصد بتول الخضيري في نصها الزمان والمكان في يوميات عمارة في قلب بغداد (( الحصار الاقتصادي يزحف في عمارتنا التي تطل على ساحة الجندي المجهول من جهة، وعلى نادي العلوية من جهة ملاعب التنس.)) اي المكان الذي يشكل اناسه نواتات التمدين والثقافة في عراق الماضي.
التبدلات التي تطرأ على هذه العمارة التي كانت تسمى عمارة الاساتذة في السابق، هي النواة الاساسية للرواية او هي النقطة الزمنية التي تتمحور حولها تداعيات السرد كمرجع في رصد التواريخ وعروض الشخصيات. فهناك عملية إرغام لمغادرة ماضي العز والرفاه، والدخول في تطفل الحاضرالذي يسعى بقسوة الى محوه والتمدد داخله مثل وحش خرافي.
ولعل معالجة الكاتبة التي تنطلق من وعي مركّب له، واحدة من أهم عناصر الرواية نجاحا. استعراض الناس لأنفسهم من خلال الحوار والفعل، يبدو على درجة من الاستقلالية الذي يتيح للسارد مساحة رحبة للتحرك دون مهمات توكلها لنفسها الرواية الوعظية او الاستنكارية او تلك التي تنعى الازمنة القديمة. فاستغراق النص في تقديم عملية الاندماج السريع واللحظوي للناس مع التبدلات القسرية، أوجد مساحة للتواصل في صياغة الشخصية الجديدة وهي شخصية متحركة حيوية تنير المساحات التي حولها وتمنحها خطابات متعددة.
دلال الشخصية الرئيسة التي لم يكن القدر رحيما بها، هي الابنة المتبناة من قبل خالتها، وزوج الخالة الذي كان كريما مع الطفلة فضل ان يسمى بأبي غائب، على ان يحمل أسم إبنة ليست من صلبه. مأساة الاب والأم اللذين توفيا في حادث تصادم سيارة، كانت واحدة من مسلسل المواعيد الصعبة التي مرت بها الطفلة، غير ان المسافة التي ابقتها خارج سياق الاحتضان الكامل او الالتصاق بمشاعر البنوة، قد مكنتها من إستخدام العين الداخلية التي ترصد السلوكيات والتصرفات على نحو موضوعي. شخصية الخالة وزوجها، تنير جوانب أساسية في عملية التحول المرصودة، فأبو غائب الذي يمثل الشريحة المتمدينة، والخبير بالفن التشكيلي وحضارة وادي الرافدين، يصاب بحكاك مرض الصدفية، وتستخدم الكاتبة مرضه في محاكاتها الساخرة لمأزقه بعد أن إرتج موقعه الاقتصادي، غير أن السرد يمضي أبعد من هذا في محاكاته الساخرة للواقع، فالخالة التي تشكل معادلا ضروريا لرصد التقارب والتباعد في العلاقات الانسانية، لاتنجو من قفشات السرد، مثلما تبدأ دلال التي تصاب بمرض إعوجاج الفم، في الدخول مع خالتها الى عالم البطلة الجديدة التي تطل عبرها ملامح بغداد الجديدة. أم مازن قارئة الفنجان والطبيبة الشعبية القادمة من الريف الى هذه العمارة تصبح اللولب في تحريك الحياة فيها : ((قصيرة مربوعة، رأسها مغلف بفوطة سوداء تلتحم بدشداشة سوداء وعلى كتفيها تتهدل عباءة سوداء)) دورة الزمن في الشقة التي اشترتها أم مازن من عسكري صامت، تحمل الكثير من الاشارات. فشقة أم مازن في الاصل تعود الى عائلة يهودية ارتبطت بناتها بصداقة مع دلال الطفلة، ثم انتقلت ملكيتها الى العسكري بعد ان حمل هذه العائلة الى المطار واستولى على بيتهم.ولانلمح من شخصية هذا العسكري سوى ظلال وجوده الثقيل وهو يمارس سطوته بحث السكان على الاحتفال بميلاد الرئيس.
الحرب والحصار يستبدلان الاماكن والناس، فأم مازن تأتيها النساء لفتح الفال والتطبب، وشخصيتها تمثل حالة نموذجية سادت العراق بعد ان اطبق الضيم والضنك حصارهما، فعادت النساء الى زمن السحر والخرافة حين أضنتهن الحروب والفاقة وغيبة الازواج.
شخصية أم مازن، تحمل دلالات جد ذكية في مؤشر السرد، انها التعبير عن إحتلال الريف للعاصمة، وظهور الطبقات الجديدة التي انبثقت من القيعان المظلمة للمجتمع ومدت جذورها بين ثنايا ارتباكاته. فهي مشردة في طفولتها ومهرّبة بضائع بين الكويت والعراق، عاشت حياة الاحتيال حتى خبرت مهنتها الجديدة. لعل حضورها الفاعل يمثل انتكاسة الوعي الحضاري الذي شرعن الخوف كل أسبابه. كما أن بيتها وعملها يستخدمان ضمن ممكنات التقنية في الكشف عن وجه العراق الجديد، حيث تصبح قصص النساء وثرثراتهن، مفاتيح الاطلالة على أسرار تفكك قيم إجتماعية وظهور أخرى بدلها. لكن صوت البطلة لايمثل حالة من الوعي تنفي او تستنكر هذا الوجود الدخيل الا ضمن برهات محدودة، بل تجري عملية الدمج والاستغراق بل والتماهي مع اعمال السحر والشعوذة في أسلبة متواترة للحوار والافكار. أنها تهرب من المأساة عبر محوها بالجد الهازل، فالبطلة شخصية متجاوبة تتنقل بين درسها للغة موليير وراسين، وبين عملها مساعدة لحلاق ومربية نحل مع زوج خالتها.
كل شخصية في الرواية تحظى باهتمام في تكوين بنية السرد، فعلى الجانب الاخر من مجتمع ام مازن، يشكل سعد او سعودي حلاق النساء مجتمعه الخاص، وهو في صداقته غير المشروطة للنساء ولدلال الطالبة الجامعية التي تعمل مساعدة له، يخلق أمكنته المثالية التي تستعيد بعض سعادات الأيام الخوالي: ضحك وموسيقى وترف في الاطعمة والاجواء. ولكن صدمة النهاية تشكل خط السباق الاخير في الاوجه المتناقضة للمأساة ـ الملهاة التي تقاربها الرواية. تكتشف دلال علاقة الحلاق بالمخابرات، واستدراجه لها عبر صديقه الذي يوهمها بالحب وهو مسؤول أمني خطر. وعلى الجانب الاخر، تكشف المناحل التي أشادها أبو غايب في حديقة النادي، أسرار الجثث المكدسة على مبعدة منها. دلال تعرف الحقيقة بفضول الطفلة فيها، ولكن النحل الذي يقتات على الدماء، يجعل أبو غايب يقامر بكل ثروته من اللوحات الفنية كي يطهّر نحله من الدنس، فيدفع الثمن غاليا، حينما يقتاده الأمن الى جهة لن يعود منها.
تحاول بتول الخضيري ان تجد في حوار الشخصيات هويات منوعة لروايتها، وهي في الغالب، تلتقط التمايزات من فكرة الاحتراف او خبرة العمل، فلغة الحلاق الانثوية اللينة، تتقاطع مع اللغة الثرة لأم مازن التي تمتهن السحر وتستغرق في تحضير خلطات الاعشاب والاحجبة. كما تختلف لغة العم الذي ينشغل بمناحل النحل عن تلك اللغة التي تديرها الخالة عن عالم الخياطة والازرار، بعد ان هجرت مهنتها الاولى كمعلمة مدرسة، كل تلك اللغات تتحاور عبر شخصية البطلة التي لاتقف على مبعدة منها بل تتماهى معها. فهي تتحول الى خبيرة نحل وحلاّقة تعرف كيف تمزج الالوان في صبغة الشعر، كما تجد نفسها على معرفة بالكثير من أسرار المهن الاخرى التي تحفظها عن ظهر قلب.
النكتة المتداولة تؤطرها الرواية في حدث يقوم على أسلبتها، فالامهات اللواتي تشغلهن فكرة عذرية بناتهن، مصنوعات من المُلح والطرائف والخرافات العراقية المتداولة. تعيد المؤلفة إنتاجهن على هيئة شخصيات تدخل بسرعة وتخرج من الرواية وكأنها تستكمل برنامجا ناقصا في زج البيئة دون معالجتها على نحو مطواع وعفوي.
وفي كل الاحوال تبقى للرواية قوة الإثارة ومتعة المتابعة الى النهاية، مع ما تنطوي عليه من قدرة على تصوير تحولات المجتمع على نحو ذكي وشفاف. العائق الاساسي في النص، وهو تبعثر البناء وإفتقاده الى التماسك في بعض المفاصل، يعود الى رغبة الكاتبة في إختراق مادتها بالمعلومات التي وجدت لها حيزا في حوار الشخصيات او في إستباق تكوينها، وهذه المثالب يمكن تجاهلها فيما إذا إستطاع القاريء تنشيط فضول متابعة الحدث وتدفق ايقاعاته وديناميتها.