عالم مُتحول بألوان الضحك والبكاء
 

GMT 11:30:00 2004 الإثنين 13 سبتمبر

جورج جحا بيروت (رويترز) - تكتب بتول الخضيري في روايتها الأخيرة "غايب" بعين مصورة ولاقطة للصور تفيض سخرية وبحركة دائمة التنقل بين مشهد وآخر كما تفعل كاميرا سينمائية في تصويرها مدى واسعا حينا وتركيزها حينا آخر على تفاصيل بليغة حادة النطق. تكتب الخضيري بطريقة من الثرثرة الفنية الأخَاذة فتعكس من خلال ذلك قدرة سردية واضحة تخلق متعة لدى القارىء فينغمس في أجواء فصول الرواية التي قد تبدو غير مترابطة وأقرب الى "كولاج "أدبي تتجاور أجزاؤه دون تداخل واندماج.

لكن الكاتبة استطاعت ان تجعل هذا القارىء خاصة في نهاية الرواية يشعر بأن هذه الصور المتقاربة انما هي وجوه متعددة لوحش اسطوري واحد هو الحرب ولحقيقة دائمة هي حاجة الانسان الى دفء المحبة والصداقة والرفقة على رغم الغيرة والتحاسد والانتقام. الكاتبة العراقية تعمل بطريقة تثير تساؤلا.. هل ترسم عالما متحولا بمجموع من الصور أم انها تفكك هذ العالم الى صور تترجح بين الواقع وما فوق الواقع وتبدو جارحة في التركيز على ما يؤلم وما يضحك. وربما جر هذا التساؤل الى تساؤل بشكل آخر هو.. هل وصل الواقع المؤلم "في عراق الحرب والحصار" الى ان تكون له سمات سوريالية ام ان عين الكاتبة ترى الامور على هذا الشكل؟.

والأرجح في الاجابة عن ذلك ان يصل القارىء الى ان رواية الخضيري تجمع بين الحالين فهي تنقل واقعا مُفجعا لم يعد واقعيا.. كما ان عين الكاتبة تنظر الى ما يجري في هذا العالم نظرة لا تقف أمام الحدث الفعلي ولا ترى إلا سماته الخارجية المسطحة وهي في حد ذاتها مفجعة جدا.. بل تنفذ من هذه السمات الى مرارة الوضع البشري وتعود فترسم بها أوضاعا تحفل بصور الواقعي والغريب. انها من ناحية أخرى تروي وسط سنوات الحصار والحرب قصص الناس بل انها من خلال قصص الناس ومن خلال الشظف والشقاء الثرثرة وعواطف أخرى تروي قصة الحرب وقصة الحياة أيام الحرب والحصار.

وقد صدرت الرواية عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في 262 صفحة وبغلاف معبر من خلال صورة فوتوغرافية للعراقي محمد الشمري لامرأة في مرحلة الكهولة ترتدي الأسود وترفع أمام وجهها فنجان قهوة "مفتوحا" للقرءاة وقد ركز عليه المصور فجعله في حجم رأس المرأة حتى ليصح القول ان الصورة تمثل فنجانا تقف وراءه امرأة. وفي ذلك ما يلخص كثيرا مما جاء في الرواية فالمرأة قارئة فنجان القهوة شخصية رئيسية شكلت نقطة التقاء كثير من أشخاصها وأحداثها.

اما اسم الرواية "غايب" فهو اسم ذلك الذي طال انتظاره فلم يأت. الشخصية الرئيسية في الرواية هي "دلال" التي قُتل والداها في حادث وهي طفلة فتولت خالتها وزوج خالتها تربيتها وكأنها ابنتهما. لم يكن للخالة وزوجها أولاد ورفض زوج الخالة ان يكنى باسم "ابي دلال" فعرف باسم "ابي غايب" اي باسم الابن المنتظر الذي لم يرزقا به.

بتول الخضيري ذات الأسلوب الساخر المؤثر في بساطته المدروسة باتقان ولدت في بغداد من اب عراقي وام اسكتلندية وحصلت على شهادة جامعية في الفرنسية. روايتها الاولى "كم بدت السماء قريبة" نشرت باللغات العربية والانجليزية والايطالية والفرنسية والهولندية "وتقرر تدريسها في جامعات عربية واجنبية." والرواية -فقط من حيث إطارها المكاني المحدد- تنهج نهجا عُرف عربيا ربما منذ "ميرامار" نجيب محفوظ و"بناية ماتيلد" للكاتب اللبناني حسن داود و"بناية يعقوبيان" للكاتب المصري علاء الأسواني وغيرهم.

ولعل ما جاء في كلمة الغلاف عن الرواية يلخص كثيرا من سماتها فهي "تتناول أحوال عائلات عراقية تعيش في شقق سكنية بعمارة وسط بغداد. كوميديا سوداء تزخر بمقارنات بين زمن الخير في عراق السبعينات والزمن المتعب في عراق الحصار والحروب. أغلب الشخصيات نسائية بسبب اختفاء الرجال في ظروف غير طبيعية لتصبح ام مازن.. قارئة الفنجان.. بمثابة المحلل النفسي لنساء العمارة. الرواية هي صورة سينمائية تعكس صراع سكان الشقق من اجل البقاء تحت ضغط حصار اقتصادي وفكري. ما بين السرد الواقعي للحدث والهلوسة السوريالية للشخصيات يتخبط الجميع في كولاج دادائي لخراب البنية التحتية وما ترتب عليه من تهاوي البنية الاجتماعية." والدادية أو الدادائية مذهب في الفن والادب انتشر في سويسرا وفرنسا في مطلع القرن العشرين ويتميز بالتأكيد على حرية الشكل تخلصا من القيود التقليدية.

يتمثل كثير من مأساة العراقيين في مجالات كثيرة منها حوار بين شخصيتين في الرواية. يكمل ابو غايب حديثا مع شخصية أخرى عن مآسي العراقيين فيقول "وأزيدك للشعر بيتا. لقد منعت الامم المتحدة من خلال لجنة الاشراف على الحصار وصول الخيوط التي تستخدم في صناعة ملابس الأطفال بحجة انها تدخل في الصناعة. كما منعت الأقمشة المستخدمة في تكفين الجثث قبل دفنها." تتذكر بهذا القول ما هو أدهي من قول المتنبي عن كافور وان ضيفه "عن القرى وعن الترحال ممنوع." لكأن بتول تقول بلسان ابي غايب ان العراقي مُنع من ان يولد كالناس ومن ان يموت كالناس."