كم بدت السماء قريبة !!

مقاربة عصرية

 

 

د. أحمد موسى الخطيب

قسم اللغة العربية

جامعة البتراء

 

   

ملخص الدراسة

كم بدت السماء قريبة: مقاربة عصرية ..

 

يدرس هذا البحث رواية الكاتبة العراقية بتول الخضيري "كم بدت السماء قريبة!!" في محاولة لاستجلاء ما تحقق فيها من جماليات الرواية العصرية على مستوى التشكيل والرؤية. فيتناول خطابات السرد الرئيسية من تتابع، وتداخل، وتواز، بالإضافة إلى تعدد أصوات الراوي، وأثر ذلك على لغة الرواية، ودوره في تعدد الضمائر في لغة السرد. كما يتناول تداخل الأنواع الأدبية في الرواية، مثل: السيرة الذاتية، والشعر، والفن التشكيلي، وفن الباليه، وفن السينما. كما يدرس البحث كيفية رسمها لشخصياتها الروائية، وكيف وظفت هذا كله، من خلال رؤية شمولية، للتعبير عن مجموعة من قضايا الواقع وهمومه الملحة، وذلك عبر أفق روائي يتسع لهموم إنسان العصر المتمثلة في: قلقه، وغربته، واضطرابه، وخوائه الروحي.

 

  

Abstract

 

This paper critically reviews Kam badat assama' qareebga! (literally: How close the sky seemed to be !!) a novel written by Batoul alkhudairi, an Iraqi woman writer.

The paper attempts to investigate modern aesthetics in the novel in terms of from and vision: narrative discourse in its sequencing, inter-connection, and parallelism, divers story-teller voices and its impact on the language of the novel; genre overlap in autobiography, poetry, formative art, ballet and cinema.  In the novel its expression in real-life issues seen from a modern perspective are also discussed.

 

 

سيتناول هذا البحث بالدراسة رواية الكاتبة العراقية بتول الخضيري (كم بدت السماء قريبة !!) (1) في محاولة لاستجلاء ما تحقق فيها من جماليات الرواية الحديثة.

وإن كانت هذه أول تجربة لها على طريق الإبداع الروائي، إلا أنها استطاعت أن تحقق فيها جملة من ملامح الرواية العصرية، استحقت أن تلفت الأنظار إلى موهبة جديدة تمضي بخطوات واثقة على هذا الطريق الصعب، تنم عن وعي ودراية بآفاق الرواية الجديدة.

 

التشكيل:-

(1) البنية السردية:

    لقد استوعبت هذه الرواية في إطار بنيتها خطابات السرد الرئيسية، وهي: التتابع، والتداخل، والتوازي.

 

التتابع:-

    وتعني بالتتابع المشاهد المركزية وفق ترتيب زمني في إطار تصور محدد، وهذا التصور الذي ينظم حركة المشاهد في تدفقها يشكل خط السرد الرئيسي (2).

    فالرواية تبدأ-خلال عملية استرجاع بطيئة- من لحظة دخول بطلة الرواية إلى المدرسة طفلة صغيرة، مروراً بعلاقتها بصديقتها "خدوجة"  والأولاد في قريبة الزعفرانية، ثم انتقالها مع الأسرة إلى بغداد، ذلك الانتقال الذي رافق تنامي وعيها، وإحساسها بنضجها المبكر، ثم وفاة والدها وتصفية مشروعه، يلي ذلك مرافقتها لوالدتها للعلاج في لندن بعد إصابتها بسرطان الثدي، وحتى وفاة والدتها هناك، ودخولها في دوامة الغربة، والوحدة، والضياع..وقد بلغت عامها الثلاثين.

    وخلال هذا كله تعرض لمجموعة من التجارب، لعل أهمها تلك العلاقة المتوترة بين والدها العراقي المتمترس خلف عاداته، وتقاليده، وشرقيته، وبين والدتها الإنجليزية التي لم تتنازل عن مفرده واحدة مما ألفته في حياتها بلندن، بعد أن أصيبت بخية الأمل حين وجدت أن الشرق ليس-كما تصورته أو زين لها قبل الزواج-أسطوريا ساحراً.     

وبين هذه العالمين المختلفين إلى درجة التناقض الحاد، ولم يستطع أحدهما أن ينفي الآخر، عاشت طفولتها، وسنوات مراهقتها، حتى وفاة والدها المبكرة الفاجعة.

    ولعل من أهم تلك التجارب تعرفها بالنحات سليم في بغداد، وبآرنو في لندن ومع الأول عرفت الأمل، الذي سرعان ما اغتالته ظروف الحرب، ومع الثاني عرفت الحمل، والذي أجهضته بعد أن اكتشفت أن آرنو صورة لواقع زائف هناك. هذا بالإضافة إلى نشوب حربي الخليج: الأولى والثانية.

    ولا يعنى هذا أن التتابع للمشاهد المركزية في الرواية قد استأثر بآلية السرد دون أن يفسح للتقنيات الأخرى، مثل التداخل، والتوزاي، لتشكل معها بنية هذا العمل المكتملة. كما أن هذا التنوع في تقنيات السرد لم يحل دون تراكم مكونات المادة السردية وفق منطق السببية بين المقدمات والنتائج. فعلاقة الأب والأم المحكومة بتناقضات ثقافتين استمرت فاترة واهية، وأقرب

ما تكون إلى الإنفصال منها إلى حياة زوجية حقيقية. وانتهت الأم إلى الغربة في العراق ولندن، فهي تقوم بعد عودتها إلى موطنها "لم أعد أنتمي إلى هنا، عندما غادرت انكلترا حينها، وقررت أن أحاول الانتماء إلى الشرق، لكن لم أنجح في انتمائي إلى الشرق رغم كل محاولاتي. الآن وقد عدت ثانية، أجدني لا أستطيع الانتماء من جديد إلى موطني الأصلي" (3). كما أن علاقة الأم بالطفلة (بطلة الرواية) لم تقم على حب حقيقي، لذا كانت أقرب إلى أبيها منها، كما أن الإبنة كانت مطالبة باسترضاء ثقافتين مختلفتين، فلم تفلح في الولاء لأي منهما، فهي تقوم لصديقها آرنو في لندن "لست من هنا ولا من هناك، هذه هي المشكلة"(4).

    كما يمكن تلمس هذا المنطق السببي في مصائر الأبطال جميعاً، وهي مصائر درامية كارثية، فحيناً تكون بالموت، كما حدث للطفلة خدوجة في ظل فقرها، وغياب الوعي والرعاية الطبية. ومثلما حدث للأب المجهد في العمل، المتألم لفشل حياته الزوجية، وإحساسه بعدم إخلاص زوجته له. وكما حدث للأم التي تكاد تقتلها الغربة والفشل، وخيانتها لزوجها، والتي انتهت فريسة لمرض قاتل.

    وحيناً آخر تنتهي حياة الأبطال بموت من نوع آخر، وذلك حين تضيع أحلامهم وتتبخر مشاريع حياتهم، كما حدث مع مدربة الباليه وتلاميذها، وبخاصة فاروق، وأحمد. وكما آلت إليه حياة النحات سليم. فقد كانت ظروف الحرب وتداعياتها هي السبب في فشلهم وغيابهم.

 

التداخل:

    لم يستأثر التتابع الأفقي للمشاهد المركزية في الرواية بتقنية السرد وحده، فلم تدخر الكاتبة جهداً في توظيف التداخل، التي تضمن لها تناثر مكونات السرد في الزمن. فالرواية المعاصرة تزداد بساطة كل يوم نتيجة كراهيتها للحبكات المعقدة الزائفة. ويذهب سكوت " أن الرواية تكتسب قدراً أكبر من الصدق إذا كتبت دون التماسك المخطط له ببراعة في الحبكة" (5). وعلى هذا حلت التشكيلات (Formations) محل الشكل (Form) في الرواية الجديدة (6).

    لقد تعددت صنوف التداخل في روايتها، مثل: تيار الوعي، والمونولوج، والأحلام، والاستدعاء من الذاكرة، والرسائل، والبيانات والتقارير والبلاغة العسكرية.

وقد خلط بعض الدارسين بين تكنيك المونولوج الداخلي، وبين تيار الوعي، أو تيار الفكر، أو تيار الحياة الباطنية (7). لكن الاتجاه السائد اليوم هو أن تيار الوعي ليس اسماً لتكنيك ما، بل اسماً لنوع أدبي. أما تكنيك المونولوج الداخلي، في بعض توظيفاته، فهو أحد التكنيكات التي تستعملها رواية تيار الوعي (8).

    والرواية موضوع الدراسة ينطبق عليها جانب مهم من معايير رواية تيار الوعي، وذلك في تجردها من الزوائد الاجتماعية والتاريخية، وتخلصها من التشبث بالأحداث الكبيرة والأبعاد البارزة التي تشكل المجتمع، مثل حربي الخليج الأولى والثانية، لكنها تقدمها بطريقة غير مباشرة من خلال تقنية التوازي، وتراسل الخارج والداخل. فهي ليست أكثر من مدخل إلى الأحداث الداخلية، لتؤكد على استلاب الشخصيات وغربتها. هذا بالإضافة إلى انشغالها ببعض الأشياء الصغيرة والأمور الهامشية التي لها حضور عميق في وجدان بطلتها المحورية، وبخاصة في علاقتها "بخدوجة" في الفصلين الأولين (9).

    ولكننا مع ذلك لا نستطيع أن نطلق عليها رواية تيار وعي، لأن القصة من هذا النوع لا تقرأ على أنها أحداث متسلسلة زمنياً، بل سلسلة غير متجانسة من المدركات..والكاتب يحاول دوماً أن يوهمنا بأننا نجرب بأنفسنا ما يحدث هناك، كما يطلب منا أثناء ذلك أن ننظر إلى شتيت من الأشياء الطارئة الغريبة، وكأننا في حلم من أحلامنا، حيث تحدث المستحيلات وغير المعقولات.. (10) لذلك فإن القصة الباطنية كثيراً ما توحي بأنها مضطربة (11). ففي هذه الرواية-على الرغم من استخدام صنوف التداخل بهدف المراوحة في الزمن-يمكن ملاحظة التتابع الأفقي للمشاهد المركزية في إطار تسلسل زمني مجدول مع مستويات من الزمن الأخرى، يبدأ من ذهاب بطلة الرواية إلى المدرسة طفلة صغيرة، وحتى تخرجها في الجامعة، واستقرارها في لندن بعد وفاة والدتها، ولها من العمر ثلاثون عاماً.

    وبالإضافة إلى أسلوب تيار الوعي، ودوره في التعبير عن الراوي الداخلي، سعياً إلى مزيد من الاتجاه نحو جوانية أوسع، كما هو الحال عند كتاب الرواية الجديدة، فهناك تكنيك المونولوج الداخلي (الحوار الباطني).

     ويقصد به تلك التقنية التي تقدم المحتوى النفسي للشخصية والعمليات الذهنية بداخلها دون أن تنطق بها الشخصية في كلام مجهور، في اللحظة التي توجد تلك الأفكار أو العمليات في مستوى الوعي، ودون أن تفترض تلك الشخصية أو تتوقع وجود سامع على الإطلاق، ويمكن أن يقدم المونولوج مادة الوعي بترتيب غير منطقي(12).

    وينهض الحوار الداخلي بالعديد من الوظائف في الرواية الجديدة. فحيناً يأتي عند بتول الخضيري موازياً للأحداث الخارجية، منعكساً عنها، كما حدث في تفكيرها بالنحات سليم إبان حرب الخليج الأولى "كيف سأحتفل بأجواء علاقتي بأول رجل يكبرني عشر سنوات، ولا يوجد وقت للأسئلة؟ هل يوجد وقت لعلاقة تحت الدوي؟! كيف نبني وسط أشياء تخرب. إنسان بعد آخر يسقط. الأبنية وبيوت الأهالي. الزمن يسقط. هل سيأخذ يدي بين يديه المتورمتين" (الرواية ص 136). وتشفع هذا المونولوج-الذي يكشف عن صارعها النفسي، وموقفها من الحرب، وما جرته على موطنها من ويلات-ببيان عسكري من الإذاعة.

     ومثل هذا الحوار في كشفه للبعد النفسي للشخصية، ولصراعها الداخلي الذي يأتي موزياً لما يحدث في الخارج، مع وضوح التطور الذي طرأ على الشخصية-ذلك الحوار الذي ارتبط بلحظة لقائها الحاسم مع سليم في بيته "رأسي يدور. أول رجل. عشر سنوات. خائفة أنا وحذرة. لا! المقولة تؤكد أن الحذر والفضول لا يأكلان من صحن واحد. يجب أن أقرر، هل أنا حذرة أم هل أنا فضولية؟ " الحرب في الخارج. نحن في الداخل. لا وقت للتعارف البطيء. لماذا أكرر كلماته؟ أين كلماتي؟ هل أغلقت باب الشقة خلفي؟ لدينا ساعة واحدة فقط. يرغب في زيارة والدته هذا المساء... "(الرواية ص 137).

     ويلاحظ الدارس من كثافة اللغة، واختصار الجمل، واحتشاد الحوار بالأسئلة. وقد جاء هذا متسقاً مع حركة النفس وإيقاعها المتسارع، وهي تتخذ قراراً مصيرياً، وتنتقل من وعي إلى وعي. وقد ساعد هذا الملتقى على ملاحظة أثر الحدث الخارجي في تشكيل العالم النفسي الداخلي للشخصية.

وقد يأتي الحوار الداخلي عندها لرصد التطور الذي يطرأ على وعي الشخصية. ونلاحظ ذلك في نهاية الفصل الأول. وهي تتحدث عن طفولتها مع خدوجة "أفكر الربيع في مزرعة المشمش، لولاه لكانت طفولتي مع خدوجة ترابية كلها. ليس فقط بسبب العواصف الرملية التي كانت تهجم صيفاً وأنا معها أثناء العطلة، لكن أكثر لون يحضر حين أذكرها هو لون التراب، مياه النهر الطينية، أو حال السواقي، بيوت اللبن المرقع بالقش.." (الرواية ص 34).

     وقد يعكس المونولوج عندها بعداً نفسياً للشخصية، تصور فيه هواجس الوحدة وما يتصل بها من قبل وخوف يتنامى ويكبر كابوساً مفزعاً. (الرواية ص 69).

     كما وظفت الكاتبة تقنية الأحلام والكوابيس لمزيد من الإضاءة الداخلية للشخصية المحورية، ولتكريس منحنى التشكيلات في بناء روايتها، تخلصاً من الحبكة التقليدية المعقدة، وذلك لما لهذه التقنية من قدرة على العصف بالزمان والمكان.

    فحيناً يأتي الحلم عندها تحقيقاً لرغبتها في كسر حدة حلقات الغربة التي استحكمت حولها في لندن، وذلك حين تفاقم مرض والدتها في خط مواز لتردي الأوضاع في موطنها، فيأتي الحلم ختاماً للفصل الثامن، لينقلها إلى عالمها الجميل في بغداد (الرواية: ص 189).

     وحيناً يأتي الحلم قريباً من عالم الكوابيس، فينهض بدور مهم في التعبير عن مشاعر الكره التي تكنها (لميلي) صديقة أمها، وأخت (ديفيد) عشيق أمها (الرواية : ص 48)، ويلاحظ في هذا الحلم كيف تعاورت تيار السرد الضمائر الثلاثة (المتكلم، والغائب، والمخاطب).

    ونجدها تستخدم تقنية الحلم إمعاناً في تناثر مكونات السرد في الزمن، فنراها تنتقل من بيان عسكري، غلى رسالة من صديقتها، إلى صوت المحلل السياسي، الذي استدعى حديثه عن الأطفال الأسرى مخزون ذاكرتها في صور حلمية، التقت فيها الصغير "حسون المعلون"، وهو يرقص بشيئة الصغير وقد نبع فجأة تحت دشداشته، وقد سألته عن صديقة طفولتها "خدوجة"، ونلاحظ فيه مراوحتها بين ضمير المتكلم وضمير الغائب (الرواية: ص 134).

     وقد يتداخل عندما الحلمي والكابوسي معاً، مؤدياً وظيفة الحلم السابق. فهو كابوس مفزع يبدأ بعد قراءة رسالة مخيفة من صديقتها ببغداد، وأقل ما جاء فيها أن النساء هناك يرددن: يارب الستر في الموت.. الستر في الموت. فتدخل في تحلمها الكابوس لتخرج منه إلى واقع مفزع، فأمها تصرخ لسقوط شعرها نتيجة للعلاج الكيميائي، (الرواية ص 189) وهكذا يتداخل الحلمي بالكابوسي بالواقعي.

     وتمثل تقنية الاستراجاع أو الاستدعاء من الذاكرة جزء مهماً في الرواية الجديدة، يحقق لها تلك الحركة التماوجية في الزمن، بالإضافة إلى ما نهضت به في هذا السبيل التقنيات التي سلف الحديث عنها.

    ففي الوقت الذي يحرص فيه الكاتب على رصد المسار الأفقي للحدث الروائي، يستدعي الماضي باستمرار في إطار التقنية الحديثة، التي تنظر إلى الزمن بوصفه لحظة مترامية الأطراف يظهر فيها الماضي منساباً في تيار الحاضر وفي غير نظام. وهذا يرتبط بالحياة الداخلية للشخصية" (13) .

    فالملاحظ أن التذكر عند بتول الخضيري يبدأ من خلال كلمة تسمعها (الرواية ص 143)، أو من خلال مشاهدة شخص ما (الرواية ص 109)، أو من خلال موقف معين (الرواية ص 64، 120، 115).

     وقد كان تركيزها في استخدامه يتمحور على الرغبة في الانتقال بتيار الزمن من الحاضر إلى الماضي، فالعودة إلى الحاضر، من خلال تلك الاختراقات المفاجئة، التي تجمد سير الحدث، "وهو تجميد يكشف ويفسر ويضيء" (14) وبخاصة عندما يطول مشهد التذكر (الرواية ص 120). وقد تنقلنا بهذه التقنية من الزمن الحاضر إلى المستقبل، ثم تعود بنا إلى الماضي فالحاضر ( الرواية ص69). وربما دفعتها تقنية التماوج بالزمن إلى العودة إلى الماضي، ثم المضي إلى زمن غائم ممتد (الرواية ص 120). فبعد أن استدعت منحوتات سليم في مرسمه أحداث الأمس المرتبطة بمعارك الجبهة في ديزفول-الشوش، خرجت من هذه إلى تأمل المنحوتات في المرسم ووصفها، فهي لم تعد إلى الزمن الحاضر، وإن كانت المنحوتات تعبيراً عن هم الراهن، فلجأت إلى تقنية التراسل مع الفن التشكيل على امتداد ثلاث صفحات. وزمن الفن-كما تعلم-زمن ممتد، لا ينتمي على نحو حاسم إلى واحد من الأزمنة الثلاثة "القطعة الأولى كانت لوليد حديث بالحجم الطبيعي. يمتد من بطنه حبل سري، يربطه بمشيمة منحوتة على شكل خوذة حرب. القطعة الثانية كانت لأم ترضع طفلها. بدلاً من تكورات نهديها الأملسين، توجد خوذتان خاكيتان بمثابة الصدر المرضع...".

     وإذا كان الاستراجاع قد جاء هنا متداخلاً مع الفن التشكيلي، فنجده في مواضع أخرى يأتي ملتحماً مع الحلم (الرواية ص 143). كما نجده متآزراً مع تيار الوعي والمونولوج الداخلي (الرواية ص 69). كل هذا من أجل إضاءة أكثر لعالم الشخصية المحورية من الداخل، ولتنشر مكونات السرد في الرواية في سلسلة من التشكيلات، تمرداً على البيئة الكلاسيكية المحكمة.

     وتقنية الرسائل ليست جديدة في الرواية العربية """فقد يستعين الكاتب أحياناً بأسلوب (الرسالة) ليكتب به القصة كلها أو جزءاً منها، من أجل أن يوهم القارئ أن ما يقصه قد جدث بالفعل" (15) ولكن بتول الخضيري توظف هذه التقنية منذ بداية الفصل الرابع تكريساً لمنحاها في التفكيك المدروس لبناء روايتها، محاولة المزج بين العديد من الأصوات الساردة، حتى لا يظل صوت الروائي، الذي يؤدي في الوقت نفسه دور الشخصية الرئيسية، هو الصوت الوحدي المهيمن، فنجدها تخلي المكان لوسيط آخر مثل الرسائل، والبيانات والبلاغات والتقارير العسكرية، ونشرات الأخبار والأناشيد والأغاني الوطنية.

     وقد عرضت علينا ضمن تيار السرد رسائل من شخصيتين ثانويتين مهمتين في الرواية، الأولى شخصية حبيبها النحات سليم، والثانية مدربة الباليه (المدام). وقد نهضت رسائلهما بدور مهم في إضاءة نفسيهما من الداخل، بالإضافة إلى دورها في تعرية الواقع وإدانته، ودورها في تقنية التوازي التي اعتمدت عليها كثيراً في بناء روايتها.

     وكما كان يأتي التذكر اختراقاً لزمن السرد ومكان الحدث، كذلك جاءت تلك الرسائل متجاورة أو متداخلة مع تقنيات أخرى، إمعاناً في تفتيت الحدث وتماوج الزمن والانتقال من مكان إلى آخر.

     فرسالة سليم الثانية جاءت بعد بيان عسكري، وقبل حديث المحلل العسكري، الذي يلاحقها كالكابوس، وبعد حديث المحلل العسكري حلم واستدعاء من الذاكرة. وهي رسالة تبدون قصيرة، ولكنها غاية في الكثافة والدلالة على استلاب الفنان وإحباطه، في أسلوب يفيض مرارة وسخرية،"...فأنا مازلت في نعمة تنفيذ مناضد عسكرية، دون نقاش. لكم إشاعة أهل القلم تقول إنهم سيوكلون إلى مهمة نقل جثث إلى المدينة" (الرواية ص 142). وتطول رسالته الثالثة إليها (الرواية ص 143)، والتي تقطع قراءتها بالرد على مكالمة هاتفية من (المدام)، ويبدون أن الطول كان مقصوداً، لأن الأزمة التي تشكلت في الرسالة السابقة آذنت بانفجار في الرسالة التالية، التي أومأت إلى موت (الفنان) بداخله، ونمت عن احتمال إجهاض علاقته بها، فهو لم يعد صالحاً للفن ولا للحياة. لذا جاءت رسالته الرابعة والأخيرة ضمن منظمة من النهايات لكثير من الأحداث المهمة، اختتمت بها الفصل الخامس من روايتها، ومنها أنه قد سافر إلى الشمال حيث أهله، وأنه يخطرها صراحة بطي ما بينهما من علاقة "حلقي يا صغيرتي، فهذا هو وقتك. أما أنا فسأبقى. سأمكث في مكان تعلمت فيه كل فنون قتل الوقت...اعبري إلى هناك. ارحلي بعيداً..طوفي في البلاد. ابحثي... لعلك تجدين تسوية عادلة مع النفس" (الرواية ص 151).

     وبلغت رسائل المدام إليها خمساً، امتازت بطولها ، وتركيزها على وصف ما تغفله وسائل الإعلام من حياة العراقيين في ظل حرب الخليج الثانية. وقد افتعلت بتول هذه التقنية لتقيم حالة من التواصل والتراسل بين مكانها في لندن بعد سفرها لعلاج والدتها هناك، وبين موطنها في العراق، ونجحت في هذا الجزء من روايتها في توظيف الرسائل لإحكام تقنية التوازي بين تفاقم مرض الأم، واستفحال السرطان في جسدها، وإخفاق العلاج الكيميائي، وغرف البطلة في حالة من الغربة والإحباط..وبين تردي الأوضاع في موطنها على نحو دراماتيكي مثير للفزع والجنون "انفجار سيارات بالجملة..شاب يبحث عن أصابعه وسط الركام. كلب يحمل إحدى قوائمه بين فكيه. أكثر الناس يتساقطون بسبب سكتة قلبية من الهلع الدائر" (الرواية ص 168). ووسائلها الأخرى لا تقل عن هذه في تصوريها الفنتازي لواقع الحياة العراقية في ظل الحرب والحصار من بعدها (16) . وليس هناك أمر وأقسى من تلك العبارة التي ختمت بها روايتها، واستشهدت بها من آخر مكالمة للمدام "نحن نأكل الخرا بالإبرة، لا الإبرة تشيل، ولا الخرا يخلص".

     ولا تقل التقارير، والبلاغات، والبيانات العسكرية، ونشرات الأخبار (17)،والأناشيد، والأغاني الوطنية(18) عن التقنيات السابقة في تعدد الأصوات الساردة، وفي مرواحة الزمان والمكان، وفي تحقيق تلك البنية المفككة المحسوبة القائمة على مجموعة من التشكيلات. وهناك فرق كبير بين التفكك عند جيل الرواد، فهو تفكك يدل على عدم الخبرة، أما التفكيك عند الجيل المعاصر "إنما هو تفكيك مقصود محسوب، يعكس مجتمعاً قلقاً مزدحماً بالناس والأحداث والأنباء المتضاربة، التي تؤدي إلى انفعالات متناقضة في اللحظة الواحدة" (19) ولا نستطيع أن نغفل أثر ما يقع من تطورات أدبية وفنية في الغرب، بالإضافة إلى محاولة هذا الجيل للتمرد على الأشكال الأدبية السابقة إثباتاً لوجوده (20).

     هكذا استطاعت بتول ان تؤكد لنا أنه لا تنقصها الخبرة ولا موهبة التركيب، حين استطاعت أن توظف هذه التشكيلات من خلال رؤيتها الموحدة، لتقدم بالتالي رواية متقنة، وهذه سمة الصنعة الممتازة "ألا يكون هناك شيء تافه إن لم يكن بالغ الضرورة" (21) . ويبدون أن مهارتها قد خانتها حين شغلت نفسها- على امتداد بضع صفحات-بتصوير تفاصيل عزاء جارهم (أبو نضال)، وكان بإمكانها الاستغناء عن هذا التوثيق الفولكلوري دون أن ينال بناء الرواية أدنى خلل. (الرواية ص 82-86). 

 

التوازي:

     كان التوازي أحد أنظمة السرد الرئيسية، التي اعتمدت عليها الكاتبة في بناء روايتها بالإضافة إلى التتابع والتداخل، وفيه تتزامن المشاهد والعناصر الحكائية، مما يساعد على تفجير المفارقة، وإضاءة الموقف، ورسم الشخصيات من الداخل.

    ونظراً لاعتمادها على أسلوب المقابلة والمقارنة في الفصول الأولى، متخذة منه سبيلاً لرسم عالم شخصياتها، وبخاصة شخصية كل من الأب والأم، لهذا نلاحظ غياب نظام التوازي فيها، فلا نكاد نظفر بنموذج منه إلا في نهاية الفصل الثالث (الرواية ص 87).

     أما في سائر الفصول فيصبح التوازي الخطاب السردي السائد، وبخاصة في الفص الخامس، الي افتنت في الكاتبة بتوظيف هذا النظام.

    وعلى امتداد تلك الفصول توظف الكاتبة إمكانات التوازي الفنية، حيث نراها تتجاوز مع التقنيات الأخرى، التي سبق الوقوف عندها. فنراها في مواضع عديدة تتخذ منها وسيلة لإضاءة عالم شخصياتها من الداخل: فضيق الأم بحياتها، وقلقها المتصاعد الي بلغ مداه، وآذن بانفجار، يتوازى مع صوت طبول حرب الخليج الأولى، التي أخذت تتعالى من خلال البيانات العسكرية، وأوشكت على الانفجار بين لحظة وأخرى. وهكذا، ومن خلال جدلية الخارج والداخل، يصبح الخارج مجسداً للداخل، أو يصبح مرآة له. (الرواية ص 92-94).

     ويتجلى التوازي عندها في تلك اللحظة التي دخلت فيها مرسم صديقها سليم، فأخذت في تأمل منحوتاته، التي شكلت في مجموعها إدانة للواقع الذي أفرزته الحرب. ويقطع لحظة التأمل تحليل عسكري مسموع يطوف بين القطع الفنية. عندئذ تقول لصديقها: المنحوتات تعبر عما يدون في الخارج فيرد عليها: نعم، الخارج يقتل الداخل.

     وإذا كان التوازي هنا قد أضاء الداخل، فقد كشف موقف الشخصية من الحرب أيضاً، وقدم روية تشاؤمية مفزعة لعبثية تلك الحرب. (الرواية ص 122).

     وينهض التوازي بدور مهم في تصوير صراع الداخل للبطلة، وذلك حين التقت صديقها سليم في شقته لأول مرة، فجعلت من البيان العسكري الذي يهبط عليهم من شباك الشقة خطاً موازياً لما يمور في الداخل من تساؤلات "نعم، فبعد أن وصلت الحرب إلى هذه المرحلة، لا يهم متى تنتهي..." (الرواية ص 133).

     وقد وظفت التوازي ثانية لموقف مشابه، حين التقت البطلة صديقها في لقاء حاسم بشقته، لكنها مزجته في هذا الموضع بتقنية المنولوج الداخلي "...الحرب في الخارج، نحن في الداخل..." (الرواية ص 137).

    كما أسهم التوازي في إضاءة موقف بعض الشخصيات من الحرب. ففي الفصل الرابع يتوازي تصاعد وتيرة الحرب مع إصرار معلمة الباليه (المدام) وعنادها على تكوين فرقة للباليه على الرغم من الصعوبات البالغة التي تواجهها. في بإصرارها تدين تلك الحرب واغتيالها لعناصر الجمال في الواقع، وإشاعتها للقبح فيه.

    وحين تطول الحرب، ويمل الناس إيقاعها البطيء، تمل فرقة الباليه رقصاتها المكررة التي اجترتها هنا وهناك. (الرواية ص 112).

     وفي موقف أخر تصف الكاتبة صورة جندي بائس أسير، بدت على شاشة التلفزيون، وقد تمزق جسده بين سيارتين تشده كل منهما في اتجاه مخالف، ثم تنقلنا تواً إلى صورة صديقها سليم، وقد جلس في الزاوية البعيدة من بيته،وهو يبكي ويدخن بشراهة، بعد أن حطم نصف تماثيله، وحين اقتربت منه قال لها: "في الماضي كنت أعرف في حياتي شعورا ، يسمونه إشراقة الإبداع، أما الآن، فلا أجد غير دقائق انتعاش  قصيرة في صراع مع الزمن يشبه صحوة الموت. (الرواية ص 146).

     وحيناً آخر توظف التوازي لتفجير إحدى مفارقات روايتها. وذلك حين قدمت لنا بياناً عسكرياً يتحدث عن انتصارات هائلة للقوات المسلحة، لتجعل من هذا البيان خطاً موازياً لهزائم الأم وخسائرها: حيث فقدت الزوج، والحبيب ديفيد، والصحة، والأمل..فأسلوب التوازي هنا أسهم بقوة في تفجير المفارقات. فالقراءة الحقيقية الصحيحة للبيان العسكري إنما تتأتى من خلال الحدث الموازي له. (الرواية ص 140).

    لقد قمنا بانتقاء بعض مواضع هذا الأسلوب السردي، لاعتماد الكاتبة عليه كثيراً في النصف الثاني من روايتها، فقد جعلت من رسائل المدام، وما حفلت به من أخبار واقع الحياة المتردي في العراق، خطاً موازيا لتدهور صحة الأم في لندن، ولتفاقم مرضها. فكان الحرب والحصار سرطان يتغلغل كل بنى الوطن، ولن يتركه إلى جثة هامدة تماماً مثل جسد الأم المتهالك تحت وطأة مرض السرطان(22).

 

(2) الراوي:

ويسلمنا الحديث عن تقنيات السرد إلى الحديث عن موقع الراوي، ولا يعني ذلك تحديد راو بعينه، فهذه فرضية غير واردة في دراسة الرواية الحديثة، حيث لا يستأثر راو معين برواية قصة ما "فالقصة الواحدة قد تحتوى على أكثر من نوع من الراوة، كما أن الراوي قد يتلون في داخل القصة الواحدة، فيبدل ثوبه من حين إلى آخر، فيبدون سافراُ مرة، ويختفي مرة أخرى، ويتحدث بضمير المتكلم مرة وبضمير الغائب مرة أخرى، وليست هناك أية ضوابط تحتم على الراوي أن يتخذ طريقة واحدة أو نمطاً واحداً، فالاكتفاء بصيغة روائية واحدة، أو المزج بين صيغتين أو أكثر مكفولة لحرية الكاتب ولأسلوبه في العرض"(23).

    وعلى امتداد روايتها بدا المنظور الذاتي هو العنصر الأبرز، مع الأخذ في الاعتبار أنه في نصف الرواية الأول كان العنصر السائد، نظراً لتضاؤل المسافة بين الراوي والشخصيات، وبخاصة شخصية البطلة المحورية للراوية، لذا استأثر ضمير المتكلم بهذا الجزء، وغدت الرواية، كأنها ضرب من السيرة الذاتية، حيث يصبح الراوي واحداً من الشخصيات، يمتزج موقعه بمواقعها، ويصبح الزمان الذي يتحدث فيه هو عينة زمانها الذي تتحرك خلاله  "وفي الوقت الذي يتولى فيه الراوي فعل القص فإنه يشارك الشخصيات في صناعة الأحداث ويتزاحم معها في صراعها مع الزمان، أو يشهد هذا الصراع ويراه بعينه"(24).

 

    والراوي المشارك غالباً ما يروي الأحداث بضمير المتكلم، مما يكسب الرواية الثقة، والحرارة، والمصداقية، وروح الذاتية. وقد ينعكس ذلك على وصف الراوي لبعض المشاهد، فيأتي الوصف مشحوناً بالموقف النفسي المأزوم، ومحملاً بدلالات رمزية مهمة. ولنأخذ مثلاً وصفها للطفل الذي رأته في الكافتيريا بعد أن قررت إجهاض نفسها والتخلص من الجنين الذي يربطها بصديقها "آرنو"، حيث تقول: "حدث كل شيء بسرعة ونظام. انتظرت لمدة ساعة في الكافتيريا. أرقب طفلاً يلهو بقدح شراب فاتح يغمس فيه البسكوت. تتكسر البسكوتات في يده، تغوص على شكل كتل عجينية إلى القعر. استمتع بالتجربة. راح يرمي المزيد منها حتى أفرغ العلبة. تهيأ لي البسكوت جنيناً في كحول حافظ. ثمة يد لرجل خمسيني تستقر على المائدة قرب الطفل. أعرف هذه التجاعيد جيداً. رفعت بصري نحوه، فإذا به برمشة عيني، قد أدار لي ظهره في طريقة مغادراً الغرفة. كانت تلك يد أبي". (الرواية ص 13).

    وفي هذه اللغة السردية المعتمدة على استخدام ضمير المتكلم (أنا)، فإن الكاتبة تسعى إلى إبراز الذات الساردة للراوي، وتحويلها إلى محور لعالمها الروائي "وهذا الإجراء يجعل العالم المروي عالماً نسبياً ذاتياً منظوراً من جانب واحد فردي، بل يعمل على جعله ذا طابع رومانسي" (25) كما يجعل المتلقي لتجربتها يتعلق بها أكثر " متوهماً أن المؤلف، فعلاً، هو إحدى الشخصيات التي تنهض عليها الرواية" (26).

    واصطناع ضمير المتكلم شكل سردى متطور، نشأ مواكباً لازدهار أدب السيرة الذاتي، كما نشأ عن ازدهار حركة التحليل النفسي التي كان تأثيرها عميقاً في الفكر والفن في الغرب، لذا عد اصطناعه في الفن الروائي ضرباً من المناجاة، لما له من قدرة على التوغل في أعماق النفس البشرية (27).

    وكثيراً ما يتجاور ضميرا المتكلم والمخاطب في لغتها السردية، وبخاصة في الجزء الأول من روايتها، حيث جعلت من أبيها مخاطبا، أو قل شاهداًً وشريكاً، "بيتنا، أو ما يطلق عليه أصحابك في العمل بيت الخبير، غرف تتداخل فيها أصوات. صوتك العميق الذي يشبه بشرتك الداكنة-وقد سألك أحدهم في إحدى المناسبات إن كنت قد استعرتها من سوق العنود-يشتبك مع صوت أمي عندما تنفعل... " (الرواية ص 20).

    ويذهب منظرو الرواية الفرنسية إلى أن ضمير المخاطب الأحدث نشأة في الكتابات السردية المعاصرة، وأن الروائي الفرنسي ميشال بيطور أشهر من استعمله في روايته "العدول" (28). لكن الحقيقة أن ضمير المخاطب ليس جديداً في تاريخ السرد الإنساني، فقد اصطنعه الراوي في ألف ليلة وليلة مثلاً، إنما المعاصرون هم الذين حاولوا إعطاءه وضعاً جدياً، مستغلين حميميته السردية، باعتباره ترجمة لضمير "الأنا" من جنس لغته" أو كأنه هو الماثل والحاضر والشاخص، ولكن بواسطة معادل لغوي آخر، وكأن المسألة لا تعدو كونها لعبة سردية ذات مضمون واحد مهما تعددت أشكالها" (29).

    والملاحظة أن ضمير الغائب كان الأقل حضوراً. ولعل طبيعة التجربة كانت تستدعي ذلك، باعتبار ضمير الغائب يجيل إلى الخارج باستمرار، وهذه الرواية كانت بحاجة إلى شكل سردي ينحو إلى الداخل، فاصطنعت ضمير المتكلم وصنوه ضمير الغائب.

    ولا يعني وجود الراوي الظاهر تقليديه الرواية، نظراً لسيطرة هذا النوع من الرواة وانتشاره في الأدب العربي القديم، والأدب الشعبي، فالراوي الظاهر المسيطر لم يمت في القصة العربية في العصر الحاضر.

    والملاحظة أن الكاتبة قد أفسحت كثيراً للراوي الخفي الجزء الثاني من راويتها، ليحل محل الراوي الظاهر، وذلك من خلال الأناشيد، والتقارير والبيانات العسكرية وتشرات الأخبار، والرسائل، بالإضافة إلى اتساع مساحة الحوار الخارجي، وتعدد مشاهد تيار الوعي..وكان لوجود هذا الراوي أثره الواضح-كما سنرى-على لغة الرواية.

ولعل "بتول" قد وفقت في ذلك أيما توفيق، بعد أن انتقلت بطلة روايتها من مرحلة الطفولة الساذجة في الجزء الأول منها، إلى مرحلة الإدراك والوعي فيما تلا ذلك،حيث أرادت أن تعبر عن إنسان العصر المأزوم المحبط "الذي اكتشف أخيراً أنه مجرد ترس في آلة ضخمة يعجز عن فهم أسرارها، وهي تسوقه دون رغبة منه إلى نهاية محتومة لا يمكن الفكاك منها، هي الموت" (30) وربما كان ذلك وراء حصار الموت بكل أشكاله وألوانه لأبطال روايتها، الذين عجزوا عن السيطرة غلى الأحدث، وغدوا ريشة في مهب الريح، وأصبح وعيهم مجرد وعاء لأحداث مهمة. كما كان وراء تخلصها من بطئ الإيقاع اللغوي الملحوظ في النصف الأول من راويتها، وذلك باستخدام لغة أسرع إيقاعاً. كما أسعفها أيضاًً في التخلي-على نحو واضح- عن ذاتها البارزة، وما أسبغته من نسبية ذاتية على عناصر عالمها المروي، لتصبح أكثر موضوعية وواقعية.

وفي إطار سعيها إلى تعدد الأصوات في روايتها، يطل علينا بينا الحين والآخر الراوي العليم بكل شيء، وما يتميز به من قدرة فائقة على استبطان الشخصيات والغوص في دخائلها وأسرارها الدفينة،  مما يجعل الأسلوب المصاحب له أسلوباً تحليلياً، يهتم بالبواطن أكثر من اهتمامه بالظواهر، وهي تميل إلى أن يكون الراوي العليم بكل شيء سلبياً محايداً موضوعياً، يكتفي بنقل العالم القصصي دون أن يتدخل بالنقد أو التقويم، فهو مجرد كاشف عن الحقيقة التي يعرفها فحسب (31).

ويبدو جلياً في مجموعة كبيرة من التقارير والبيانات العسكرية، بدءاً من الفصل الرابع وحتى نهاية الرواية، ومثل ذلك تلك الرسائل التي تلقتها من صديقتها (معلمة الباليه) على امتداد الفصول الأربعة الأخيرة. ويمكن تلمس ذلك في وصفها الحسي لبعض الأمكنة(32)، ولهيئات بعض الشخصيات(33). ولنستمع إليها وهي تصف شارع "همر سميث" في لندن حيث أقامت فور وصولها مع أمها المريضة إلى هناك، فهي تقول: "ألقيت نظرة عمودية. أرقب المارة، تلمع قبعاتهم البلاستيكية ومعاطفهم الشمعية، ينتقلون بين أشجار تيبست كأنها مكانس أوروبية غرست بالمقلوب، موزعة بانتظام على الرصيف. أغصانها مثل أيد تخشبت أصابعها إلى أعلى، ففر المطر المنهمر من بين العيدان، تصده حدبات المظلات الفسفورية الملون. بائعة الورد تدخل نباتاتها إلى المحل. إحدى اللافتات تعلن عن افتتاح مدرسة تعليم قيادة السيارة للرهبان والراهبات..إعلانات أخرى: الإيدز أسبابه ومخاطره. كيف تسوق متحف الشمع؟ هل تشعر بالوحدة؟ ما رأيك برفيق يختاره لك الكمبيوتر؟ كيف تتخلصين من حملك بدون ألم" (الرواية ص 152).

وحين نتأمل هذا الوصف نلاحظ أن الراوي العليم المحايد لا ينقل الحدث أو الشيء نقلاً مطابقاً لوجوده المادة الملموس فحسب، بل ينقله من خلال ملامسته لنفوس الشخصيات المحيطة بالحدث أو الشيء الموصوف.

 (3) تداخل الأنواع الأدبية:

لم يعد التمييز بين الأنواع الأدبية ذا أهمية في كتابات معظم الكتاب المعاصرين، فالحدود بينها تعبر باستمرار، والأنواع تخلط أو تمزج، فالأنواع "لم يعد لها ثباتها القديم، وأصبح كل نص جديد كأنه نوع في ذاته، ولم يعد من السهل أن تجمع مجموعة من النصوص لتقوم إنها تنتمي إلى نوع أدبي واحد" (34).

وهذه القضية ما زالت مثار جدل، فالتفكيكيون يعملون على هدم مفهوم "النوع الأدبي"، ويرون عدم تحديد النوع بالطريقة نفسها التي يبررون بها عدم تحديد الدلالة عموماً. ويعمل نقاد ما بعد الحداثة على محاولة العمل بلا نظرية للنوعين مستخدمين مصطلحات مثل "النص" و "الكتابة"، عامدين إلى تجنب التصنيفات النوعية. ونجد من يذهب إلى القول بأن "كل نص يستند إلى جملة خصائص تسمح (بتنويعه)، وإدراجه ضمن نوع أدبي عام، مهما بلغت درجة انتهاكه للقواعد الأولية لذلك النوع" (35).

لكن الرأي الراجح الآن أن الأنواع الأدبية فصائل مفتوحة. وهي ذات مفاهيم مرنة متطورة، بمعنى "أنها تتطور من عصر إلى عصر، ومن فترة إلى فترة، ومن مدرسة إلى مدرسة، ومن كاتب إلى كاتب. فكل عمل جديد-خاصة إذا كان عملاً أصيلاً- يضيف إلى النوع "(36). ويعنى هذا استبعاد فكرة نقاء النوع الأدبي، في ظل تميع الحدود أو مرونتها، وفي إطار العلاقات المتبادلة بين النوع الأدبي والفنون المجاورة أو غير المجاورة له.

    ففي هذه الرواية، نلاحظ كيف تداخلت مع السيرة الذاتية، وكيف تأثرت بفن الشعر، وأنها استعارت شيئاً من الفن التشكيلي، وأخذت بعضاً من فن المونتاج السينمائي.

    ولعل السؤال الذي يطرح نفسه على قراء هذه الرواية هو: هل هذه رواية أم سيرة ذاتية؟ لقد لاحظنا كيف شكل السرد بضمير المتكلم فيها ظاهرة أسلوبية مهيمنة، وهذه علاقة متبادلة بين السيرة والرواية. هذا بالإضافة إلى أن كل الروايات تقرأ كما لو كانت سيراً ذاتية(37). كما أن الفن الروائي العربي عرف عدداً من الأعمال التي يمكن أن نطلق عليها "رواية السيرة الذاتية"، مثل: طه حسين (أديب)، وتوفيق الحكيم (عصفور من الشرق)، ويحيى حقي (قنديل أم هاشم) ومحمد شكري في ثنائيته (الخبز الحافي وزمن الأخطاء)، وجمال الغيطاني (كتاب التجليات)، ومحمد العروسي المطوي (رجع الصوت)، والطيب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال)، وعبدالله الطوخي (سنين الحب والسجن)، وحنا مينا في ثلاثيته (بقايا صور، والمستنقع، والقطاف)، وبهاء طاهر (الحب في المنفى). ويمكن أن تندرج رواية بتول مع مجموعة الروايات تلك، التي سعت إلى تقديم شكل سردي حديث، تتقاطع الرواية فيه مع السيرة الذاتية، بهدف انتهاك الحدود، وكسر الحواجز بين الأجناس الأدبية. وروايتها تدخل في باب "رواية التكوين"، وهي أول نقاط التماس مع "رواية السيرة الذاتية". ورواية التكوين "تصور التحولات العاطفية والنفسية والفكرية التي تنتهي بنضج بطل شاب تصقله تقلبات الحياة أو تصلب عوده. ويمكن أن ينتسب هذا البطل انتساباً مباشراً أو شبه مباشر إلى الكاتب نفسه، أو يصوره في المرحلة التكوينية الأولى من حياته، مثلما ينتسب "فرتر" إلى جوته الشاعر،.. أو يدل البطل "ستيفن" في صورة الفنان شاباً "على جيمس جويس"(38).

     وإذا كانت السيرة الذاتية معنية بوصف الحياة الخاصة للشخصية، والرواية تحتفي بوصف العالم الخارجي، فنلاحظ أن روايتها، وبخاصة في نصفها الأول، هي وصف للحياة الخاصة لشخصية السارد = المؤلف، وقد جاء هذا الوصف عن طريق الاسترجاع الذي يعد قوام السيرة الذاتية. وكانت هذه العناية بحياة الشخصية المحورية تفسح-قليلاً-لوصف العامل الخارجين الذي سيتسع على نحو واضح في النصف الثاني من الرواية.

    فقد صورت في النصف الأول حياة الفلاحين وطيبتهم، وبؤسهم، وتخلفهم. أما النصف الثاني فقد اقترب من كونه وثيقة تصور الواقع الاجتماعي والنفسي للعراقيين في ظل حربي الخليج، وهو واقع  إلى الموت أقرب منه إلى الحياة. وربما كان هذا وراء استعارة "بتول" لآليات السيرة الذاتية وعوالمها، لأن السيرة بما أنها "رغبة في الانتصار على الموت، هي يقين، ذلك أنها تعتقد أن حياة الإنسان يمكن أن تروي، أو يمكن أن تترجم إلى ألفاظ، وأن اللغة قادرة على خلق الحياة من جديد"(39). كما أن السيرة الذاتية لا تنتهي بموت الشخصية، بل تظل مفتوحة، ولعل هذا ما دفع "بتول" إلى التداخل والتقاطع بين فن الرواية وفن السيرة الذاتية، رغبة منها في تجاوز حصار الموت لأبطال روايتها، ويبدو هذا جلياً من خلال خيط الضوء الذي ينسل وسط حلكة الواقع، ممثلاً في استمرارية حياة السادر (البطلة) وانتظارها للباص رقم 27، كما جاء في الجملة الأخيرة من الرواية.

    وربما كان دافعها للجنوح إلى السيرة الذاتية في روايتها هو رغبتها في العودة  إلى الجذور من خلال اشتداد البعد المكان، الذي قد يثير مخاوف انقطاع المرجعية التي يستند إليها الكيان الإنساني في تماسكه واستمرار وجوده. ومن المعروف أنها قد كتبت روايتها بعيداً عن وطنها، وهي ترى من حولها الكثير من أبناء شعبها وقد تقطعت بهم السبل، واستحال على الكثير منهم العودة إلى الوطن، فجاءت روايتها تعبيراً عن غربتها بخاصة، وغربة الإنسان بعامة في وطنها واستلابه وانسحاقه...وقد لاحظ بعض الباحثين(40) أن تشابك رواية (الغربة) بالسيرة الذاتية وتقاطعها معها يمثل ظاهرة في تاريخ الأدب العربي الحديث.

    لم تكتف "بتول" بالاعتماد على بلاغة القصة الخاصة، كما يفعل بعض الروائيين، ممن يسوقون حكاياتهم بغلة بسيطة، تخلو من اللمسات البلاغية الرفيعة والأنيقة. بل يلاحظ قارئ روايتها مدى قدرتها على امتلاك لغة جميلة وسليمة، تلامس شواطئ الشعر، وتستعير منه تلك الصور الخيالية الجميلة، في لغة تميل إلى الاكتناز والامتلاء، وتستغني-أحياناً-عن الروابط، لكن دون إسراف في هذا المنحنى، ودون أن تكون ترفاً يأتي على حساب تطور الحدث وحركة الشخصية. ولنأخذ مثلاً تلك الصورة الوصفية لها، حيث تعاقبت وصديقة طفولتها "خدوجة" ركوب الأرجوحة " جاء دوري. ركلت الهواء بقدمي..ارتفعنا إلى أعلى..ركلت أقوى..ارتفعت أعلى..سبحت في فضاء...أطرتني زرقة حليبية...كل النخيل تحت قدمي الحافيتين...الشمس تسبح في مياه النهر..أفرد أصابع قدمي...تنفذ أقلام ضوء من بين الفراغات الأربع...وبالقدم الأخرى أركل أقوى...أرتفع...استنشقت خط الأفق..وعندها...كم بدت السماء قريبة‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍!! " (الرواية ص 17).

    فبالإضافة إلى ما أومأنا إليه من شعرية لغتها، فهي تدهشنا في هذه الفقرة بما توفر فيها من إيقاع يدعم شعرية اللغة، وقد نهض به قصر جملها وتعادلها، وتكرار بعض ألفاظها على نحو لافت، وهذا النسيج الصوتي المتميز، وبخاصة تلك الحروف الهامسة مثل: الفاء، والعين، والسين، والحاء، والشين. ولعل الراء-هذا الحرف القوي-قد جسد بطبيعته وحضوره وتكراره حركة الأرجوحة، وحركة المشاعر الموارة في أعماقها. ويذكرنا هذا بقول الناقد جورج ديهامل: "إن موسيقى الأسلوب شرط لازم لسيطرته على النفوس. نعم إن الروائي الحق هو الذي يعرف قبل كل شيء بعض أسرار الحياة، لكنه أيضاً رجل-يلجأ في التعبير عما يعلم إلى موسيقى لفظية يستخدمها بطبيعته، فيتميز بها كإمارة خفية لخصائص نفسه "(41).

    وعلى هذا النحو يجمع أسلوب القصة-كما يرى الدكتور طه وادي-بين الفائدة القصصية، وبين القيمة الجمالية للعبارة القصصية سواء في السرد أو الحوار(42)

ويبدو أن الدعوة إلى العناية بلغة الرواية الحديثة عناية تقترب بها من جماليات اللغة الشعرية قد غدت اتجاهاً عاماً لدى الدارسين، حتى أننا نجد من يؤكد على ذلك بقوله: "إنا نطالب بتبني لغة شعرية في الرواية، ولكن ليست كالشعر، ولغة عالية المستوى، ولكن ليست بالمقدار الذي تصبح فيه تقعراً وتفيهقاً.. (43) ولا يكتفي بذلك، بل نجده في موضع آخر يفصل طبيعة اللغة التي يعدعو إليها للرواية الحديثة، فيقول: "إذا لم تكن لغة الرواية شعرية، أنيقة، رشيقة، عبقة، مغردة، مختالة، مترهيئة، متزينة، متغجرة، لا يمكن إلا أن تكون لغة شاحبة، ذابلة، عليلة، كليلة، حسيرة، خلقة، بالية، فانية، وربما شعثاء غبراء"(44).

ليست رواية "بتول" من روايات تيار الوعي الخالصة لهذا النوع، لكن تيار الوعي، وتقنية المونولج الداخلي كانا ضمن وسائل السرد المعتمدة عندها، ولعل هذا كان سبباً في اقترابها من شواطئ الشعر بين الفينة والأخرى (45)، وملامستها لحدوده، واستعارتها لبعض ملامحه، لأن قصة تيار الوعي (كما يقول ليون إيدل) قريبة جداً من الشعر، وكتابها يتوسلون بالنثر في استقصائهم للفكر المنساب المتدفق، المتراقص، المعتم بالظلال-إلا أنهم ينتجون شعراً (46). فلم تكون "بتول"-إذن-تستعيد في تلك المواضع أحداثاً من حياتها مجردة من المشاعر والأحاسيس، وحين" يعيد الفن تركيب  عناصر الحياة تركيباً دقيقا، فإن جواً من الشعر يحيط بتلك الحقائق" (47).

    وتداخل الحدود بين الرواية والشعر ملمح عصري في الرواية الحديثة، أفرد له الباحثون دراسات مستقلة، وبخاصة عند كتاب رواية تيار الوعي(48).

    ولما كانت أعراف الرواية تتغير على ضوء المفاهيم المتغيرة للطبيعة الإنسانية والعلاقات الإنسانية، فإن الروائيين المختلفين في الفترات المختلفة عمدوا إلى أدوات وأساليب مختلفة للتعبير عن نظرتهم الجديدة. وهذه الأدوات والأساليب تؤول عند التحليل إلى مزيد من استغلال عامل الزمن وقيمه المتأصلة في الرواية، وكثيراً ما تنم عن شبه ملحوظ بتلك المستخدمة في الفنون الزمنية الأخرى كالموسيقى والأفلام السينمائية(49).

    وقد استعارت الكاتبة على امتداد روايتها بعض الأدوات المشتركة بين الأفلام والروايات. ففي حديثنا عن تقنية التداخل، تناولنا الاستدعاء من الذاكرة (Flash Back) ضمن مجموعة من ضروب التداخل، باعتباره جزءاً مهماً في الرواية الجديدة، يحقق لها تلك الحركة التماوجية في الزمن.

    وحين نتأمل لغتها نلاحظ تفاوت الإيقاع بين (الإسراع والإبطاء). ففي نصفها الأول شكلت روايتها من لغة تعتمد بناء جمل طويلة ذات زوائد شارحة ومفسرة. ولعل هذه اللغة ذات الإيقاع البطيء كانت أكثر اتساقاً مع تلك المرحلة العمرية للبطلة/المؤلفة، وذلك قبل أن ينمو وعيها وينضج، وتصبح أكثر تفاعلاً مع حركة الواقع من حولها، مما دفعها في النصف الثاني من الرواية إلى اعتماد لغة ذات إيقاع أسرع، متخذة من الجمل القصيرة، المتوترة، المستغنية عن الروابط والزوائد الشارحة سبيلاً لذلك. ولنتأمل مثلاً قولها: "عندما شعرت عمة زكية أن بقائي عندهم قد طال همت بإعادتي إلى أهلي. كم أحب هذه اللحظات التي ترفعني فيها عمة خدوجة عن الأرض بحركة رشيقة سريعة فتجلسني على كتفها..أشعر كأنني قدرو اللبن الرائب العالية التي تصفها الواحدة فوق الأخرى.. "(الرواية ص 41) لنرى مصداقاً لذلك الإيقاع البطيء، الذي يأتي نقيضاً لإيقاعها اللغوي منذ نهاية الفصل الرابع، الذي ختمته بقولها: "طقوس الدفن، قبضة يدي" (الرواية ص 116) وهو إيقاع يأتي متناغماً مع حركة نفسها القلقة، المضطربة، ومع واقعها بكل توتره، وتسارع أحداثه، وانقلاب معاييره تحت وطأة حربين متتاليتين، يشكل الحصار امتداداً وتواصلاً لثانيتهما. وقد كانت لغة رسائل (المدام) خير مثال لتلك اللغة المتسارعة اللاهثة.

    وبالإضافة إلى تلك الأدوات السينمائية، استعارت الكاتبة أداة تقريب الصورة (close up) وقد استعانت بها في تصوير عدد من المشاهد الحسية، (الرواية ص 39، 96، 152، 154)، أو تصوير بعض الشخصيات الثانوية، (الرواية: ص119، 159). فتصويرها-مثلاً-لمشهد خيانة الأم في المستودع، الذي شهدته من فتحة صغيرة ضيقة، يذكرنا بتلك اللقطات السينمائية التي تأتي من خلال ثقب الباب "اقتربت من الفتحة. أرمي نظرات تمسح زوايا المخزن. هذا العمود الجانبي اللعين يحجب نصف الرؤيا، فلا أرى غير الجدار الداخلي العريض أمامي. تتوتر عيناي إلى اليمين واليسار، أحاول أو ألعق ببصري مصدر الكركرات...ببطء، ارتفع أمامي على الجدار ظل بكتفين عريضتين، يحتوي ظلاً بشعر ملفوف للأعلى على هيئة كعكة، أين ميلي؟ الظلال تتقاطع. الكعكة تتدحرج. الشعر يتهدل. يزداد الاحتواء. الكرسي يضطرب. يتشاركانه، الفتحة الرطبة تضيف على مقلتي...الكرسي المكسور يهتز، يهتز، يهتز... " (الرواية ص 52).

    أما فن (المونتاج) فقد استعارته في مواضع قليلة، (الرواية: ص 137، 193) لتخليص نفسها من خجل التفاصيل حيناً، وحيناً آخر لتعبر عن الزمن النفسي للحدث، وفي كلا الحالتين كانت تسعى إلى تكريس إيقاع روايتها المتسارع في نصفها الثاني. ومن ذلك وصفها لأول لقاء مع آرنو في بيته "ضحكنا، تاركين القهوة تبرد...قضينا ساعة ليس بالغريبة، لم تتخللها أية حوادث ولا أصوات غير مفهومة. ليلة تفاهمنا عبر طياتها كعاشقين قديمين، تزوج كل منهما على حدة، يلتقيان مرة في السنة، على ضوء شمعة.. " (الرواية ص 185).

    وفي إطار سعي الكاتبة إلى استثمار تقنية التماوج بالزمن، لاحظنا من قبل كيف لجأت إلى عملية التراسل على امتداد ثلاث صفحات بين الاستدعاء من الذاكرة والفن التشكيلي، (الرواية ص 120-122) فإذا كان التذكر يعود بنا من الحاضر إلى الماضي، فإن الفن التشكيلي يمضي بنا إلى زمن ممتد غائم. وعدا عن دور الفن التشكيلي في إضاءة أبعاد شخصية ثانوية مهمة في الرواية، تمثل نموذجاً للفنان المستلب، والمثقف المقهور، فقد نهض بدور مهم في تجسيد هموم الواقع، ومرارته، وقيمه المقلوبة "على طرف المنضدة البعيد مجموعة من منحوتات أصغر حجماً لحمار في بدلة سهرة، جرذ يضرب بالسوط، خنزيرة ترضع رجلاً، قطة تضاجع كلباً..يد ترفع شارة النصر  ، أخرى تنزف، الثالثة تتوسل. يد تتضرع. يد على شكل قبضة غامضة. يد تفكر، أخرى تلعب، يد تعبت من الانتظار".

    كما وظفت فن الباليه من خلال عملية التوازي التي أشرنا إليها من قبل واستطاعت أن تخلق حالة من التراسل بين الحفل الذي أعدت له معلمة الباليه، وبين ما يحدث في الخارج في ظل حرب الخليج الثانية "يبدأ السيناريو بفريقين يفصل بينهما نهر. الفريق الأول يعيش تحت شمس مذهبة هادئة، لا يأبه بفريق بدأ يدب في المرض لاختفاء شمسه تحت غيمة كثيفة في شكل فطر عملاق شغل نصف خلفية المسرح. أبت الغيمة أن ترحل، فقرر أهلها أن يهاجروا طلباً للدفء في بلد بعيدة.. "(الراية ص 147) ونجحت على امتداد صفحتين-أن تجعل من "فن الباليه" جزءاًً من نسيج عملها الروائي.

    وقد بدا واضحاً الآن كيف قدمت "بتول" نصاً عصرياً مرنا، مفتوحاً، تسمح حدوده المتميعة بتبادل العلاقات مع الفنون المجاورة أو غير المجاورة له، حتى غدا نصاً متميزاً جديدا، كأنه نوع في ذاته. "ولعل تهاوي الحواجز الفاصلة بين أنواع الفنون على هذا النمو يشير إلى رغبة في التوصل إلى تعبير شامل عن القيم

العامة"(50).

 

(4) الشخصيات:

    يلاحظ في رواية السيرة الذاتية وجود بطل محوري، يمثل بؤرة التجربة، وما عدا ذلك من شخصيات أخرى، فهي تدور في فلطها، وتنهض بمهمة إلقاء مزيد من الضوء على جوانبها المتعددة.

    فالراوي/البطل/المؤلف في رواية " بتول" هو الشخصية التي تمحورت تجربتها حولها، تلك الفتاة الوحيدة لب عراقي وأم إنجليزية، التي عانت كثيراً من صراع ثقافتين مختلفتين، يحاول كل منهما-عبثاً-نفي الآخر.

    ولا يعني هذا بالضرورة مطابقة شخصية البطلة للكاتبة " فالشخصية الطبيعية عند دخولها في الرواية تتخذ وظيفة جديدة، وتدل على معنى جديد، وتكون جزءاً من لوحة كبيرة، حتى أننا في النهاية ننسى الأصل، ولا يبقى إلا الشخص الخيال باعتباره الخادم لفكرتنا ولإحساسنا "(51).

    وقد حاولت "بتول" تقديم شخصية روائية تتجاوز السائد في الرواية التقليدية، التي تتعامل مع الشخصية على أنها كائن حي لها وجود طبيعي، وسعت-على طريقة الروائيين الجدد-إلى الابتعاد عن وصف ملامح الشخصية، فاكتفت-على مستوى البعد المادي للشخصية-بوصفها بالسمرة والنحافة، ولم تخلع عليها اسماً، كما فعلت الشيء ذاته مع أبيها وأمها، ومع معلمة الباليه، ولم تسم إلا الأبطال الثانويين الأقل أهمية، مثل (ديفيد، وميلي، وآرنو، وجفري). هذا إذا استثنينا شخصيتين ثانويتين مهمتين (خدوجة وسليم) اللتين كانتا على جانب كبير من الأهمية في الكشف عن جوانب الشخصية المحورية.

    ولكن " بتول" لم تنجح في الحد من غلواء شخصيتها المحورية، وإغفال بعديها: الاجتماعي والنفسي. ويبدون أنها لم تسع جادة إلى الإعلان عن موت شخصيتها، كما فعل الروائيون الجدد في ربع القرن الثاني من هذا القرن، وغدا ملمحاً واضحاً للرواية الجديدة، حتى أن بعضهم قد اكتفى بإطلاق رقم على بطلة، أو تسميته بحرف من الحروف، كما فعل "كافكا"(52).

     وشخصية البطلة شخصية نامية مدورة، تكشفت بالتدريج، وتطورت متفاعلة مع الأحداث والشخصيات من حولها، متأثرة ومؤثرة، وتغيرت من موقف إلى آخر، سواء انتهى تفاعلها بالغلبة أو الإخفاق(53). وعن طريق هذه الشخصية النامية، التي تمثل رؤية الكاتب، يمكن تملس مواقف الكاتب، وعلاقتها بالحياة من حولها، ومدى تفاعلها مع القضايا الحيوية في راهنها. ويمكن القول بأن "بتول" استطاعت أن تقدم من خلالها شخصية نموذجية، تمثل جيل الحرب في العراق، الذي تفتح وعيه على حربين متتاليتين، وحصار مازال مستمراً، كما استطاعت أن تختزل صورة المثقف المستلب والمقموع...فقدمت العام من خلال الخاص. والشخصية النموذجية "تمثل المطلب الأسمى في الإنجاز الفني، والوصول إليها يتطلب قدرة فنية متطورة...إنها الطموح والحالة الأرقى فنياً، التي تمتلك القدرة على التعميم، وإعطاء صورة موضوعية مطروحة بصيغة فنية عن الحركة الاجتماعية في ظرفها التاريخي الذي تعيشه"(54).

     أما سائر شخصياتها فأكثرها شخصيات مسطحة، مثل (خدوجة، وديفيد، وميلي، وآرنو، وجفري). وأقلها شخصيات نامية، مثل (الأب، والأم، والفنان سليم، ومعلمة الباليه). وقد حظيت هذه الشخصيات باهتمام الكاتبة، وكان لها حضورها المميز، وأهميتها في حياة البطلة المحورية. وإضاءة أبعاد شخصيتها، وربما تجاوزت هذا الدور المنوط بالشخصيات الثانوية، لتصبح شخصيات نموذجية لها القدرة على التعميم، وتمثيل فئة بعينها.

    لقد لجأت "بتول" إلى أكثر من أسلوب في رسم شخصياتها، فنجها حيناً تلجأ إلى الأسلوب التمثيلي، وحيناًُ آخر تستخدم الأسلوب التحليلي.

    والملاحظ أنها قد اعتمدت الأسلوب التمثيلي في رسم شخصية بطلها المحوري، كما استخدمته في رسم بعض الشخصيات الثانوية المهمة، مثل: الأب، والأم، والفنان التشكيلي سليم، ومعلمة الباليه.

     وفي هذا الأسلوب ينحي الكاتب نفسه جانباً ليتيح للشخصية أن تعبر عن نفسها، وتكشف جوهرها بأحاديثها وتصرفاتها الخاصة(55)، بحيث لا ينفصم التلازم بين الشخصية والحدث، فيتضمن كل تطور في الحدث تغييراً في الشخصية ويتبع كل نمو في الشخصية تغير في الحدث، وتنام في الصراع(56).

ويحلو لبعض الدارسين تناول هذه الطريقة في رسم الشخصية في أسلوبين، هما: الأسلوب التصويري المعتمد على تقنية الحدث والحوار، والأسولب الاستيطاني المعتمد على تقنية الحوار الداخلي، والتذكر، والأحلام(57).

     ويرى الدكتور محمد يوسف نجم أن روايات السيرة الذاتية التي تستخدم ضمير المتكلم، أو الوثائق، أو تيار الوعي، لا يستطيع كاتبها أن يدس أنفه، بل يترك للشخصية أن تنضو الحجب عن جورها بواسطة البوح، والاعتراف، وتداعي الأفكار، والمراجعة الداخلية (58). وهذا ما لجأت إليه بتول في تصوير تلك الشخصيات التي أشرنا إليها.

     والملاحظ أن هذه الطريقة تركز على عالم الشخصية النفسي، وذلك من خلال اعتمادها على تقنيات خاصة تعد ضرورية لإضاءة عوالم الشخصية النفسية، والتي يستطيع بها القارئ أن ينتقل من الأحداث الخارجية التي تثير النشاط الذهني للوقوف على حركة الفكر والشعور. ويعد هذا الصنيع الذي ينحو إلى (جوانية أوسع) ملمحاً عصرياً مشتركاً في فن الرواية (59).

     أما الأسلوب التحليلي (التقريري) الذي يعنى برسم الشخصية من الخارج، يشرح عواطفها، وبواعثها، وأفكارها، وأحاسيسها، ويعقب على بعض تصرفاتها، ويفسر بعضها الآخر، فتبدو الشخصية جامدة، ثابتة، باهتة الملامح(60)- فقد لجأت إليه في رسم بعض شخصياتها الثانوية، مثل: ديفيد، وميلي، وآرنو، وجفري. أما شخصية الفنان سليم فقد لجأت في رسمها إلى الأسلوبين معاً. فقد بدأت بوصف تقريري للشخصية بقولها "فتح لنا الباب وجه عريض، ينبع منه أنف إغريقي. يتدلى من تحت منخريه الضيفين شاربان مائلان إلى شقرة تلائم لون العينين اللذين اختفيا تحت جفنين ثقيلين، عندما ابتسم مرحباً... " (الرواية ص 119). ثم تركت الشخصية تتكشف من الداخل بالتدريج من خلال الأحداث، وعلاقتها بالشخصية المحورية، ثم من خلال الرسائل التي بعثت بها إليها، فانتهت إلى رسم شخصية حية، دينامية، نامية، تتطور مع أحداث الرؤية.

 

الرؤية:

تطرح رواية "كم بدت السماء قريبة" مجموعة من قضايا الواقع وهمومه، وهذا شأن الرواية، وبخاصة الروايات ذات المنحنى الواقعي التي تتميز بشمولية رؤيتها في التعبير عن الواقع. والرواية بعامة تتشكل من قماشة واسعة، تسمح لكاتبها بتحريك أبطالها عبر زمان ومكان يتأبيان في الرواية الجديدة على الضيق والتحدد، لما تتمتع به من تقنيات حديثة، تعمل على تثوير الزمان والمكان، ويتم هذا التحريك عبر شبكة معقدة من العلاقات في الواقع.

     ولعل أسمى ما يطمح إليه الكاتب الروائي فنيا، هو أن ينجح في تقديم الشخصية النموذجية القادرة على التعميم، وإعطاء صورة موضوعية بصيغة فنية. وأظن ذلك قد تحقق لبتول الخضيري إلى حد كبير من خلال مجموعة من الشخصيات ترمز كل منها إلى فكرة أو منزع، فبطلة الرواية تجسد صورة الجيل الجديد الممزق بين ثقافتين، ولا يعرف لمن يكون ولاؤه، أيكون لهذا الأب الذي تعلم في لندن، وتزوج من امرأة إنجليزية، وظل وفياً لهويته الشرقية العربية: لغة، وعادة، وسلوكاً، ومزاجاً..؟ أم يكون ولاؤه لتلك الأم الإنجليزية التي مثلت ثقافة غربية مغايرة؟ ولنا أن نتساءل هنا: هل أرادت بتول أن ترمز بشخصية الأب إلى تراثنا وجذورنا، وهويتنا الأصلية في مقابل شخصية الأم، التي تمثل ثقافة (الضد)، أي ثقافة الغرب الحديثة؟

     فالدراسة لا تستبعد ذلك، بل تميل إليه، ولا سيما أن الشخصيتين اللتين رسمتهما تحتملان ذلك، فقد برعت في تقديمهما من خلال المقابلات والتوازيات التي شغلت أكثر من نصف الرواية، وأتقنت بذلك تصوير الصراع الثقافي الذي عاني منه مجتمعنا العربي. وخلال ذلك نتأمل موقف البطلة/الجيل الجديد، التي ظلت فترة من الزمن تقدر موقفها، ثم نراها وقد انحازت إلى شخصية الأب، الذي غدا أقرب إليها من أمها وأحب، وبدأ موقفها يتكرس بعد أن تكشفت لها حقيقة مشاعر أمها، التي لا تكن حباً لأبيها، ولا تتورع من خيانته، وإقامة علاقة مع صديقها "ديفيد" الذي يصر الأب على تسميته "داود". ولا تخفى الإيماءة الذكية لهذا الإصرار. وإمعاناً في استجلاء رؤيتها تلجأ إلا تقنية الحلم الكابوسي لتتصور "ميلي" أخت "ديفيد" وقد غدت زوجة أبيها.

     لعل هذا يتيح لنا لأن نتقدم خطوة أخرى لنقول: إن بتول ترى ملاذ الجيل الجديد يتمثل في تمسكه بتراثه، وهويته في مواجهة ثقافة زائفة، لا تعد بشيء سوى التشويه والضياع.

     وتثير دهشتنا وفاة الأب المبكرة المفاجئة، التي شكلت-ولا شك- حرماناُ للبطلة من ذلك الملاذ، وأدخلتها بعد ذلك في دوامة من الغربة الممضية، التي استحكمت حلقاتها من حولها بعد وفاة الأب/الملاذ، وأفضت بها إلى الارتباك، وفقدان التوازن، فها هي ذي تقيم علاقة محرمة مع الفنان سليم، وبعد ذلك تحمل سفاحاً من "آرنو، ثم تجهض حملها، وتتوه بعد ذلك في بحر من الغربة بلندن. كل ذلك وهي بصحبة تلك الأم التي عجزت عن الأخذ بيد ابنتها، وأنى لها ذلك وهي العليلة بالقلق قبل وفاة الأب، والمريضة بالسرطان بعد ذلك، والتي لم تستطع لندن بكل علمها وتقدمها من إنقاذ حياتها، والتخفيف من تدهورها الدراماتيكي  على نحو مخيف. فهل أرادت "بتول" القول بأنه هذه الثقافة/ثقافة الضد هشة، قلقة، مريضة، ومصيرها إلى زوال، ولا تعد بأكثر من الضياع؟ ربما أرادت ذلك، وليس لها أن تنكره أو تنفيه، طالما أن التجربة تحتمل ذلك دون أن نلوي عنقها ونقولها ما لم تقل.

     ولعل أهم القضايا الإنسانية التي عالجتها الرواية هي قضية الاغتراب، فكل أبطالها عانوا من مرارتها، وكانوا ضحايا لها. فالبطلة اغتربت وهي طفلة بين ثقافتين، تحاول كل منهما-عبثاً-نفي الأخرى، ثم تكرست غربتها وهي كبيرة بعد وفاة أبيها، وسفرها من ثم مع أمها المريضة إلى لندن، حيث استحكمت حلقات الغربة، فلندن بكل عملها ونظامها وتقدمها كانت تمثل ضياعاً تاماً لقاطنيها، الذين يتحركون في حرية متضخمة، لكن في غياب قيم الحياة النبيلة.

     كما عانى الأب من الغربة (طالباً) في لندن، ثم تضاعفت غربته (زوجاً) في بغداد، ولعله كان أقل الشخصيات غربة أو أقلها معاناة من حدتها. وذلك بعكس الأم التي عانت من غربتها في موطنها قبل الزواج. وحلمت بالخلاص من ذلك بالسفر إلى الشرق بعد الزواج، ولكن أحلامها تبخرت هناك، وعادت إلى موطنها، اكتشفت أنا ليست من هنا أو هناك!.

    ومثل الفنان سليم ومعلمة الباليه جمهور الفنانين المستلبين، والمثقفين المحبطين في المجتمع، ممن تكاد الغربة تقتلهم، وحقاً كان لها ذلك، إذ انهزم سليم، وعبر عن غربته من خلال أعماله، التي حطمها ذات ليلة، حين اشتدت وطأة غربته بفعل ظروف حربين متتاليتين، فقتلت روحه، ووأدت الفنان بداخله "فالمنحوتات تعبر عما يدون في الخارج، نعم، والخارج يقتل الداخل... "(الرواية : ص 122).

    أما معلمة الباليه، فلم تكن أقل معاناة منه، لكنها قبلت التحدي، وأصرت على تشكيل فرقة للباليه في ظروف صعبة ومذلة، واستطاعت أن تقدم عرضاً ناجحاً، كان تجسيداً لراهنها، وظلت بعده صامدة ترصد الواقع من خلال تلك الرسائل التي بعثت بها إلى صديقتها (البطلة) في لندن، معبرة بها عن وعيها بظروف راهنا، التي لم تحل دون زواجها. ولا يخفى ما للزواج من دلالة على الأمل في بدء حياة جديد، تنبثق وسط ذلك الدمار الشامل. فهل أرادت "بتول" إدانة سلبية (الذكورة) في مواجهة تحديات الواقع، وذلك في مقابل إيجابية المرأة؟ فنحن لا نستبعدها، بل لا نتردد في ترجيحه.

    ويبدو أن الكاتبة ترى الجيل الجديد على قدر كبير من الوعي، وأنه رافض لسلبيات واقعه، ويدينها ما استطاع، ويتمرد عليها ما أمكن، ولعل بطلة الرواية هي الأكثر تمثيلاً لهذه الروح، فكثيراً ما تمردت على تعليمات أبويها وهي صغيرة، وظلت تتطلع إلى الحرية على امتداد الرواية، وعبرت الكاتبة عن ذلك من خلال صلتها "بخدوجة" وعالمها السحري الذي كن يتيح لها هامشاً من الحرية، لا تظفر بشيء منه في بيتها، وهاذ يعلل لنا فجيعتها بوفاة خدوجة. كما أن نزوعها إلى الحرية يعد مفسراُ صالحا لحبها للنوم فوق سطح منزلهم، ولسعيها إلى الأماكن الواسعة في الزعفرانية، وبغداد، ولندن. ورسالة الفنان –كما يرى كامو-هي إشباع الحاجة إلى الحرية والكرامة، وعظمة الروائي هي بمقدار تمرده وجمعه بين الثورة والإبداع(61).

     وقد اتبعت "بتول" خلال ذلك الواقعية والتحليل النفسي لتلك الشخصيات وتطويرها، وتعميقها. ولم تكتف بتقديم واقع مؤلم قاتم، بل قدمت حالة فنية راقية، ورؤية فنية متقدمة.

    ولكن يؤخذ عليها سيطرتها-أحياناً-على بعض شخوصها، وإنطاقهم بلغتها وفكرها، ما يفقد الشخصية مصداقيتها وحيويتها، كما فعلت على لسان "فاروق" حين اعترض على طلب معلمة الباليه بأن تعمل الفرقة أكثر وأكثر، فقال: "نحن نبذل جهدنا طلباً لرضاك، ومحاولة لتفهم الدرب التي وضعونا عليها منذ الطفولة. وربما جنوا علينا بتعريضنا لعامل جعلنا نخشى ما يطلقون عليه الحياة العملية الطبيعية. فنحن لا نعرف غير الرقص، وهذه اللغة لا تجدي في الحرب. وربما كنا مخطئين بتمسكنا بما نسمينه بالحلم. ربما آن الأوان أن نفك الارتباط هذا إن كان سيدمر لنا أعصابنا على هذا النحو. على كل حال، الأمل يتضاءل بأن انتهاء الحرب قريباً. نحن على أبواب، تخرج، فلنكن أحكم من أن نطلب المستحيل'' (الرواية: ص 111).

    فهذا المستوى الفكري يتجاوز بكثير مستوى طالب في المرحلة الثانوية، ولكن موطن المؤاخذة هذه يطل استثناء في مقابل تقديرنا لتحرير شخصياتها الأخرى من سطوتها لتنمو وتتطور، وتعبر عن نفسها على مستوى الحوار والحدث.

    ليس هذا كل ما طرحته الرواية من هموم خلال شخوصها' '' فما يعطيه العمل الروائي لا يكمن بالضرورة في أحداثه الكبرى، وشخصياته الرئيسية.. فقد يكمن في بعض الزوايا الدقيقة، أو الإشارات الخافية'' (62) فقارئ روايتها لا يستطيع أن لا يتوقف ملياً أمام شخصية '' خدوجة'' وعالمها في الزعفرانية، فالغاية ليست مجرد رغبة في تحريك البطلة على مساحة مكانية واسعة، وطبيعة ريفية جميلة. ففي الرواية المتقنة لا يوجد حدث تافه. ولعل الكاتبة قد سعت إلى إدانة الواقع، الذي يهمش عالم الفلاحين، ولا يسعى إلى تطويرهم، بل يكرس تخلفهم. فإذا كان أولئك الفلاحون يعيشون على تخوم بغداد منسيين، فما بالنا من هم أبعد مكاناً من ذلك في قلب السواد العراقي.

    ولا تتورع الكاتبة من إدانة أبناء الطبقة البرجوازية، التي تنتمي إليها بطلة راويتها، وذلك من خلال عملية موازاة بين بيئتين عراقيتين تصور تجاور التناقض بين أسرتها وأسرة خدوجة المعدمة. فإذا كانت أسرتهما تنظر إلى عالم خدوجة نظرة تهوين لا تخلو من ازدراء، لأنها تملك المال، والعلم، ووسائل الحضارة الحديثة، فهذا لا يعني –من وجهة نظر الكاتبة- أنهل الأفضل. لن أسرة ''خدوجة'' تمثل بيئة عراقية أصيلة، تملك الحب، وتتمتع بعلاقات حميمة بين أفرادها، وتمتاز ببساطتها ونقائها.. وأفرادها متساندون، يأكلون معاً، ويعملون معاً، وبيوتهم تتساند أيضاً مشكلة وحدة بنائية واحدة، ولا يعرفون الكذب وزيف المشاعر، ولا يعرفون من أدوات الحضارة الحديثة شيئاً. علماً بأن بيت البطلة يخلو من الحب، ودفء العلاقات النبيلة.

    كما أدانت الكاتبة أيضاً إشعال الحروب بلا دوافع حقيقية جوهرية، ودون دراسة دقيقة لحساب المكاسب والخسائر، تضع آدمية الإنسان وروحه أول اعتباراتها. كما أن تلك العنجهية التي تخاض بها الحروب تليق بإنسان يخطو مسرعاً عتاب العقد الأخير صوب الألفية الثالثة. فقد بدا واضحاً من تلك التقارير، والبيانات العسكرية، ونشرات الأخبار الإذاعية والمتلفزة. التي حشدتها الكاتبة- مدى الزيف، وغياب الشفافية والمصداقية… ولا سيما أننا نرى- في خط مواز لتلك الانتصارات الإعلامية الوهمية- ضروباً من الهزائم والإحباطات للإنسان على كل المستويات، وحسبنا ما جاء في تلك الرسائل المتبادلة بين البطلة وحبيبها سليم، وبينها ومعلمة الباليه، ولا أدل على ذلك من قولها على لسان البطلة المحورية ''  كيف نبني وسط أشياء تخرب إنسان بعد آخر يسقط الأبنية وبيوت الأهالي تسقط. الزمن يسقط '' (الرواية ص 136).

    وقد لجأت الكاتبة إلى تقنيات التداخل، والتقاطع، والتوازي لتقديم تلك المادة الوثائقية المدهشة  عن الحرب، والتي كادت كثرتها تجور على حيوية السرد.

    والتجربة التي تقدمها مثل هذه الرواية- برغم خصوصيتها- تحمل بعض سمات إنسانية عامة، ما يؤهلها لأن تتجاوز حدودها الزمانية والمكانية إلى آفاق أرحب.

    وما يثلج الصدر أن هذه الرواية هي أول نتاج للكاتبة '' بتول الخضيري '' ويعني هذا مولد روائية عربية، تخطو على دروب الإبداع الروائي في ثقة وقوة. وهي على وعي بالكثير من آليات السرد الحديثة، وتقنيات الرواية العصرية.

 

 

 

 

هوامش الدراسة

1.

كم بدت السماء قريبة !!: بتول الخضيري، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1999 م.

2.

تيسير سبول..خصوصية الرؤية وجماليات التشكيل: د.محمد الشنطي، المؤتمر الأول للحركة الأدبية في الأردن/ جامعة مؤتة/ عام 1993 (مخطوط)، ص 7.

3.

كم بدت السماء قريبة !!: ص 199-167

4.

نفسه: ص 163

5.

الزمن والرواية: أ.أ. مندولا، ترجمة بكر عباس، دار صادر بيروت، 1997، ص 58ز

6.

المرجع نفسه: ص 61

7.

القصة السيكولوجية: ليسون إيدل، ترجمة د. محمود السمرة، المكتبة الأهلية، بيروت 1959م، ص 115، 121، وانظر أيضاً: تيار الوعي في الرواية العربية الحديثة: محمود غنايم، دار الجيل بيروت، ودار الهلال بالقاهرة، ط2، 1993م، ص 13.

8.

تيار الوعي في الرواية العربية الحديثة، ص14

9.

انظر: الرواية: ص33، وانظر المواضع الأخرى: 62، 69، 71، 78، 86، 87، 109، 159

10.

انظر: القصة السيكولوجية: جـ 2، ص 304، 305.

11.

المرجع نفسه: 303

12.

انظر: تيار الوعي في الرواية الحديثة: روبرت همفري، ترجمة محمد الربيعي، دار المعارف، القاهرة، (د.ت)، ص 44، 45، وراجع: تيار الوعي في الرواية العربية الحديثة: ص 14، 15. وانظر: القصة السيكولوجية: ج 1، ص116، 117.

13.

تيسير سبول.. خصوصية الرؤية وجماليات التشكيل: ص 12. وانظر أيضاً: دراسات في نقد الرواية: ص 36.

14.

فنون النثر العربي الحديث: د. شكري الماضي، منشورات جامعة القدس المفتوحة، ص1، 1996، ص 43.

15.

دراسات في نقد الرواية: د. طه وادي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1989م، ص46.

16.

الرواية: ص 165، 176، 185، 195.

17.

وردت هذه التقنيات في أكثر من خمسة عشر موضعاً: ص 93، 96، 103، 106، 107، 113، 126، 130، 133، 135، 136، 138، 140، 142، 157، 160.

18.

كانت محدودة، وردت في موضع واحد: ص91

19.

القصة تطوراً وتمرداً: يوسف الشاروني، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 1995، ص 150

20.

المرجع نفسه: ص 151

21.

الزمن والرواية: ص 52

22.

الراوية: ص 168، 176، 186، 195

23.

الرواي والنص القصصي: د. عبد الرحيم الكردي، دار النشر للجامعات بالقاهرة، ط2، 1996م، ص 141

24.

المرجع نفسه: ص 120

25.

المرجع نفسه: ص 134

26.

في نظرية الرواية: د. عبد الملك مرتاض، سلسلة عالم المعرفة، الكويت 1998م، ص 184

27.

انظر: المرجع نفسه: ص 185، 189

28.

انظر: المرجع نفسه: ص 191

29.

المرجع نفسه: ص 192

30.

الراوي: والنص القصصي: ص 87

31.

انظر: المرجع نفسه: ص 108، ص 109

32.

الرواية: ص 152، 154، 156، 158

33.

نفسه: ص 119، 175، 188

34.

تداخل الأنواع في القصة المصرية القصيرة 1960-1990: د. خيري دومة، الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة، 1998، ص 26 وما بعدها. وانظر: القصة القصيرة: آيان رايد، ترجمة د. منى مؤنس، الهيئة المصرية العامة بالكتب بالقاهرة 1990م، ص 79، وما بعدها.

35.

أصل الأجناس الأدبية: تزيفتان تودورف، مجلة الثفافة الأجنبية، بغداد، ربيع 1982م. والنص المنقول من مقدمة المقال للمترجم الدكتور محمد برادة، وهو متأثر في برأي صاحب المقال، الذي يذهب إلى ضرورة وجود النوع حتى يتم تجاوزه وانتهاكه. وهذا الرأي يتفق وما ذهب إليه ''فولر'' في كتابه الضخم '' أنواع الأدب''.

 

Alastair Fowler, Kinds of Literature: An introduction to the Theory of Geners and Modes, Oxford University Press, 1982, P: 278

36.

تداخل الأنواع في القصة المصرية القصيرة، ص 33

37.

راجع: عالم القصة: برناردي فوتو، ترجمة د. محمد مصطفى هدارة، عالم الكتب بالقاهرة، 1969م، ص 38. وانظر زمن الرواية: د. جابر عصفور، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1999م، ص 231

38.

زمن الرواية: ص 234

39.

السيرة الذاتية في الأدب العربية الحديث..حدود الجنس وإشكالاته: محمد الباردي، مجلة فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة، شتاء 1997م، ص 74.

40.

تداخلات النصوص والاسترسال الروائي..تقاطعات رواية السيرة الذاتية ورواية الاغتراب: د. أحمد درويش، مجلة فصول، ربيع 1998م، ص 35

41.

فن القصة: د. محمد يوسف نجم، دار الثفافة، بيروت (د،ت) ص 116

42.

دراسات في نقد الرواية: د. طه وادي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1998، ص 42

43

في نظرية الرواية: ص 126

44.

المرجع نفسه: ص 115

45.

الرواية: ص 24، 34، 59، 86، 96، 136، 137، 193

46.

انظر: القصة السيكولوجية: جـ 2، ص 275

47.

المرجع نفسه: ص 280

 

48.

انظر تفصيل ذلك في: دراسات في نقد الرواية ص 42، ونظريات معاصرة: د. جابر عصفور، الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة، 1998م، ص 250، وتداخل الأنواع في القصة المصرية القصيرة: ص 159، وما بعدها.

49.

الزمن والرواية: ص 65

50.

المرجع نفسه: ص 65

51.

فاروق شوشة: لقاء مع نجيب محفوظ، الآداب، حزيران، 1960مز

52.

انظر: في نظرية الرواية: ص 87-93

53.

راجع في مفهوم الشخصية النامية: فن القصة (مرجع سابق)ن ص 86

54.

النموذج وقضايا أخرى: عبد الله رضوان، منشورات رابطة الكتاب الأردنيين، عمان، 1983م،

ص 47

55.

فن القصة: ص 98

65.

انظر: رسم الشخصية في روايات حنا مينة: فريا سماحة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1999مم ، ص 34

75.

المرجع نفسه: ص 34 وما بعدها

85.

فن القصة: ص 99

95.

راجع: الزمن والرواية، ص 227 وما بعدها

60.

انظر: فن القصة: ص 98، وراجع: رسم الشخصية في روايات حنا مينة، ص 48

61.

فلسفة الفن في الفكر المعاصر: د. زكريا إبراهيم، دار مصر للطباعة (د.ت) ص 225

62.

قراءة الرواية: د. محمود الربيعي، مكتبة دار الزهراء بالقاهرة، 1985م، ص 13