الوسط / 17/2/2003    العدلية - حسام أبواصبع

 

بتول الخضيري في كم بدت السماء قريبة مقطوعة موسيقية... يطول الموت فيها كل شيء

أقامت صالة الرواق للفنون التشكيلية حفل توقيع رواية الكاتبة العراقية بتول الخضيري "كم بدت السماء قريبة" بنسختيها العربية والمترجمة إلى الإنجليزية... وانتهزنا فرصة وجود الكاتبة في البحرين فكانت لنا هذه الوقفة المزدوجة مع الكاتبة، ومع روايتها التي استطاعت أن تكون خير تأشيرة لها للدخول إلى عوالم الأدب، وأن تشكل روايتها حدثا يستحق التوقف عنده، لغير سبب مما سنأتي عليه
بالتفصيل لاحقا.

 

 ينتاب بداية، قارئ هذا العمل في هذه الفترة تحديدا شعور بالحميمية ممزوج بألم خانق، وهو يقلب صفحات هذا العمل، وخصوصا أن العراق اليوم يحتل واجهة الحدث، وهو محور الخبر، وتصغي الآذان منذ فترة إلى إيقاع خافت بدأ يتصاعد شيئا فشيئا، وقد وصل هذه الأيام حد الصخب العنيف، منذرا بشؤم الحرب وويلاتها التي تبدو وكأنها قاب قوسين من الانفجار.

إن أبرز ملمح رسمته هذه الرواية هي تشعباتها المختلفة، والفضاءات المترامية التي تخترقها بخفة، جاعلة جميع موتيفاتها وعناصرها بمنأى عن الخطابية الزاعقة، أو الحديث الوعظي الرتيب. كما أنها ابتعدت عن تشخيص البكائيات الحارة، واكتفت ببث الأنين الذي لا يقل فداحة لجهة التأثير، وتمحورت على رغم ذلك حول تجسيد حالات مختلفة من الموت الفردي، الذي يسير جنبا إلى جنب مع الفقد الجماعي، وفي الخط نفسه تتصاعد الخيبات الفردية، وتنهار الأحلام الجمعية، من منظار - كما أسلفنا - ينطلق من الأنا بوصفها كينونة تعاني تأزمها الخاص، مع جعل حد فاصل يمنع هذه الأنا من التدخل في تجيير الحدث "المشكل" لمصلحة المعاناة الشخصية، وهو أبرز ملمح توافرت عليه الرواية.

تبدأ الرواية بداية حالمة، ذكرتني شخصيا بمعزوفة نصير شمة المعروفة "حدث في العامرية" التي بدأت متهادية، ثم بدأ الإيقاع في التصاعد شيئا فشيئا، ليعود الهدوء نهاية القطعة الموسيقية. ثم بدأت أولى الصدمات بفقد البطلة التي تكتم الراوي على اسمها لصديقتها خدوجة، التي أنهكتها البلهارسيا وأفقدتها حياتها، ثم تتوالى بعد ذلك التأزمات فيرحل والد البطلة بعد أن يصب في أذنها خلاصة تجاربه ومعارفه في صناعة مختلف أنواع المطيبات: عطور، صابون... وبعد ذلك فقدها لصديقها سليم النحات الذي كانت على علاقة معه، وهجرها بعد أن أرهقت الحرب نفسيته ووقوعها في منزلة بين المنزلتين إما مواصلة هذه العلاقة المستحيلة هو مسيحي وهي مسلمة أو سفرها مع والدتها إلى موطن الأخيرة لتلقي العلاج، ثم سفرها مع والدتها التي كانت تعاني إلى إنجلترا، وملازمتها إياها حتى لفظت أنفاسها، ومشاهدتها من
ثم وقائع حرب الخليج الثانية عبر الشاشة الفضية من بلاد الغربة.

إن التجربة الثقافية في هذه الرواية إحدى العلامات الفارقة، التي جعلت منها عملا يتمتع بخصوصيات فنية مائزة، لقد كانت الراوية/ البطلة تطرح الموضوعات المختلفة ذوات الإشكالات، وسرعان ما تنسحب منها بهدوء، لتنتقل إلى موضوعات أخرى مخلفة وراءها تساؤلات جمة، تضاعف من المساحة التخيلية، كما أنها برعت في إعطاء كل شخصية من شخصيات هذا العمل حقها ومستحقها، من دون تدخل منها يفضي إلى إنشاء شخصيات تتسم بنمطية التفكير موحدة، بل ولعل أبرز ما قد يبقى نهاية المطاف أن
البطلة / الراوية ظلت بمنأى عن أفعال الإدانة لطرف على حساب آخر، كما وأنها ابتعدت عن استصدار أحكام قيمية تقف لمصلحة والدها "العراقي" على حساب أمها " الإنجليزية" على رغم تباين الثقافات، وكثرة المشكلات بينهما. وفي الآن ذاته تركت الشخصيات تتحاور فيما بينها، وإن انتابت هذه الحوارات كمية غير قليلة من العنف الرمزي المتبادل، ومن الصخب والعنف... لكنها كانت في النهاية تتحاور، وإن
لم تصل إلى أي من نقاط الالتقاء والاتفاق. لقد استطاعت الكاتبة أن تعجن هذه الشخصيات كل واحدة منها بعجينة مختلفة، وأن تمسك بها جميعا بخيوط رفيعة جدا، وتحركها كما العرائس معطية لكل واحدة منها فضاءها ومساحتها المثلى... ولم تكن الحوارات عامل هبوط إيقاعي - وهي من إحدى مشكلات الرواية العربية المزمنة - بل كانت على وفاق مع الفعل السردي الوصفي، وإن سما الأخير وكان أكثر تماسكا، على رغم الجمل القصيرة التي تستخدمها الكاتبة، والتي تقترب في بنائها النحوي والصرفي كثيرا من قواعد ونظم الجمل الإنجليزية في سمتها العام، وفي سماتها الخاصة.

وتفتح هذه الرواية من المنطلقات السابقة أسئلة كثيرة، فالرواية تدين بالكثير من الفضل لنمط الإنتاج الغربي في الوصف والرصف، كما أنها تنجو بنفسها من الترهل والزوائد، وتعتمد تقنية أو آلية تصاعدية في شحذ الحدث بالمؤثرات... وعلاوة على ذلك فإنها تنهض على مقومات استعراضية تنحو نحو الوصف الداخلي العميق، فكانت مقتصدة في الوصف الخارجي للشخوص والمكان ومختلف العوامل والفواعل... كما أنها كانت سلبية بعض الأحيان في إبداء رأي أو طرح وجهة نظر، فظلت بعيدة مكتفية بالحديث حول، من دون الحديث عن... مما أفقد العمل بعض الممكنات... وإننا عددنا ذلك إيجابا في موضع ينطبق على الحديث عن الحرب مثلا، إلا أن إيجاب ذلك لا ينسحب بالكامل على كل شيء. ومع ذلك قدمت "كم بدت السماء قريبة" إضاءات لافتة في كيفية توزيع ضمائر الحكي بالقسطاس، فبدأت الرواية مخاطبة التي تحيل على مجهول بصيغة، ينكشف بعد ذلك طرفا الحكي، ثم رويدا رويدا تبدأ الشخصيات الأخرى بالظهور تباعا وبعرض وجهات نظرها، وإن اعتمدت الرواية على الراوي النمطي.
كما أن الرواية تحمل تحريضا حقيقيا للقارئ أو المتلقي منذ الصفحة الافتتاحي التي تسبق المتن... الأسماء والشخصيات والأمكنة والأحداث كلها من نسج الخيال... وفي النهاية نسج الخيال هو ألعاب تحريك الحدث، وتفعيل الفضاء. كما عمدت الكاتبة إلى تزيين نصها، وتشييده بنصوص اعتراضية تخلق شرخا في سيمترية الخطاب، ويكون ذلك بالرسائل أحيانا، أو عن طريق قص ولصق بعض الفقرات من النشرات والبيانات الإخبارية في وصف مجريات الأمور على جبهات القتال في الحرب الأولى بموازاة
أحاديث قلوب، ونجوى أفئدة، وتخرصات مشاعر عشقية قاسية. إن فيض المشاعر التي تحملها الرواية بين دفتيها جرى التعبير عنها في الرواية بجمل رشيقة تحمل نفسا شعريا لافتا بحق.
القراءة العجلى السابقة طعمناها بهذا الحوار المقتضب، تقول بتول الخضيري في حوارها معنا:


*
عشت في بغداد معظم فترات حياتي إلى أن تخرجت من الجامعة، ثم رحلت إلى إنجلترا وأمضيت فيها سنوات، وأعيش حاليا في الأردن، ولم تنقطع علاقتي بالعراق، فأنا أزورها سنويا.وتضيف: والدتي كانت أمينة مكتبة في أدنبرة، وهي التي عرفتني على عالم الكتب، وكانت تقرأ لي في سنوات التكوين الأولى قصة كل ليلة بالإنجليزية - طبعا - ، وكذلك كان يفعل والدي، كان يخصص لي يوم الجمعة ويقرأ لي فيه شيئا من الشعر، ومن قصص العرب مثل"كليلة ودمنة"، إضافة إلى القرآن الكريم.
وتقول: علاقتي باللغة العربية بدأت متأخرة جدا، حينما بلغت الثامنة عشرة، وفي هذه السن بالكاد بدأت أقيم علاقة ما مع اللغة العربية، وأستطيع استخدامها للتعبير، ففي مرحلة الدراسة في الجامعة درست لغة ثالثة "الفرنسية"، وفي إنجلترا درست إدارة الأعمال مدة سنة، وبقيت هناك مع والدتي حتى توفت.

 

 

  *وأنكرت الكاتبة وبشدة أن تكون الرواية عبارة عن سيرة ذاتية في تساؤل وجدناه شاخصا في بعض القراءات والمراجعات لروايتها كونها سيرة ذاتية... تقول عن هذه التجربة: هي أقرب ما تكون إلى التأثر بتجربتي الحياتية فأنا ابنة لأب عراقي وأم اسكتلندية، هذا الاختلاف الذي عشته، أوحى إلي بكتابة عمل روائي قرأت فيه الاختلاف والتباين الحضاري، ومن هذا المنطلق نسجت شخصيات هذا العمل، والتي تعود أصول بعضها إلى عالم الحقيقة، ولكن ليس بشكل فوتوغرافي، فقد تدخل الخيال كثيرا في تحريك هذه الشخصيات وتوجيهها الوجهة التي أريد. وتضيف: أؤكد أن هذا العمل ليس سيرة ذاتية، فلو كان كذلك فحتما سأظلم أبي وأمي أيضا. هاتان الشخصيتان، هما في الواقع محور الرواية، وبينهما وبين الأم والأب في الواقع بون شاسع، فأمي مثلا لا تمثل الشخصية الإنجليزية الباردة، بل على العكس كانت تقدس مفهوم العائلة، وغير ذلك.



 *سألنها عن التنقلات الجغرافية، وعن المكان ومدى تشكيله لمزاج وهوية الكاتبة، ومن ثم روايتها... تجيب: بغداد أحملها معي أينما أذهب... ولاأزال أستقي منها كل ذكرياتي ومشاعري وكل الألوان والأبعاد، ولا أحلم إلا ببغداد، وهذه الذكريات كانت الملجأ حين يحاصرني الاختناق في إنجلترا، ألجأ إليها ساعات الكرب، فتنسيني الوقت في تلك الغربة التي لم أستطع الاستمرار فيها، فأتيت إلى الأردن الذي
أحسست بأنه الحل الوسط بين الماضي والمستقبل... وهو فضاء معتدل، ومتفتح، وبسيط، وهادئ...
وتضيف:

 والعراق بلد الفنون وقد كان مهرجانا دائما للفنون، ولعلك لاحظت أن الفن التشكيلي كان طاغيا في الرواية، فبالإضافة إلى شخصية النحات، كان لفنون الموسيقى، والباليه، حضور وتأثير كبير... أما إنجلترا فهي ترتبط بذكرى وفاة والدتي، وبحالة التأزم النفسي التي عانيتها وقت خروجي من العراق، وأهلي هناك بالداخل، ثم مشاهدتي عبر شاشات التلفزيون حوادث حرب الخليج الثانية، وكنت في
حالة اختناق دائمة، ومع ذلك كتبت في إنجلترا أجزاء من هذه الرواية، وهي الأجزاء المتأزمة. وتؤكد أنه لولا هذا الشعور بالاختناق والغربة لما كتبت من الأساس، فكنت ألازم سرير والدتي، وهي تتهيأ للموت طوال 3 سنوات، ولم يكن لي أي متسع سوى للكتابة... فهي كحالة فنية ساعدتني على الكتابة، ولكن كحالة إنسانية، لم أتواصل معها.. فكنت في إنجذاب مستمر للشرق.. وأقرب مكان إلى بيتي، هو بـيت جيراني...

 *حققت الرواية نجاحات كبيرة، وحظيت بقراءات جمة... كيف كان وقع هذه الأصداء عليك... تقول:
كانت أصداء هذه الرواية بالنسبة لي مفاجأة كبرى، إذ كان هاجسي وقلقلي منذ البداية أن أكتب عملا مقنعا لي "أنا"، ولم أضع في تصوري مسبقات معينة حول جمهور محدد أو أصوات خارجية، ولم أكن مقتنعة بأن هذا العمل يستحق النشر، وكنت على وشك أن أتخلص منه، وكنت مكتفية بالاستماع إلى الصوت الداخلي فيها، ولكن بعد أن عرضتها على عدد من الأصدقاء، وأبدوا تفاعلا معها قدمتها للنشر بعد أن ظلت حبيسة الأدراج عقدا كاملا من الزمن، وحين نشرت الرواية مترجمة في نيويورك وكان هذا أبعد من الحلم، وكانت المفاجأة الكبرى أيضا حين اتصلت بي دار النشر الفرنسية " غاليمارد" لتوقيع عقد ترجمة الرواية، وهي دار النشر التي كانت تمول القسم الذي كنا ندرس فيه بالكتب والمراجع. وعموما كان الاهتمام الغربي بالرواية منصبا على علاقة الشرق بالغرب، وقد أولوا الاهتمام للكيفية التي ترى بها العين الغربية، مقارنة بالعين الشرقية... وكيف عاشت الأنا الغربية في العراق وكيف رأت الأمور. وأعتقد أيضا من الأسباب التي كانت وراء انتشار الرواية أنها لا تحتوي على أجندة سياسية مخفية، وهو عمل قادم من الخطوط الخلفية، وليس من الخطوط الأمامية، وهو بعيد كل البعد عن العناوين التي تظهر في الصحافة، وإنما عن الشخصية العراقية العادية الفلكلورية، التي تعيش في الحدث أو ما بعده، بعيدا عنها بوصفها مسببا للحدث التي نقرأ عنها، مثل مدرس الباليه، أو الجندي، أو سائق سيارة الرش لقتل البعوض، وغيرها من الأنماط في الحياة العادية.  وأضافت:

 وبالنسبة إلى المتلقي العراقي تحديدا فاختلف وجه الاهتمام بحسب الجيل الذي ينتمي إليه القارئ، فالجيل الذي أنتمي إليه تفاعل أكثر ما تفاعل مع الجزء الأول من الرواية إذ وصف نسق الحياة في عراق الستينات والسبعينات، أما العراقي المغترب مثلا فقد وجد في النصف الثاني من الرواية سلواه... وهكذا.

 *سألناها ما هي الفواصل والاختلافات بين هذا العمل، وغيره من الأعمال الأخرى التي قرأت علاقة الشرق بالغرب كما هو الحال في نموذج "موسم الهجرة إلى الشمال" مثلا؟ فقالت: إن معظم هذه الروايات تتناول الرجل الشرقي، الذي يذهب للغرب، ثم يعود إلى وطنه محملا بالتناقضات، لكن في رواية "كم بدت السماء قريبة" فإن التناقض يبدأ من الصفحة الأولى...

* وعن مشروعاتها المستقبلية تقول: أستعد لإصدار عمل ثان لم أضع له اسما بعد،
وقد استغرق 3 سنوات كاملة... وتتمنى الخضيري ختاما أن تجد مخرجا سينمائيا يؤمن
بهذا العمل، ويحول هذه الرواية إلى فيلم لأن عدد قراءالرواية في العالم في انحسار، وهذا حلم.

_____________________________________________________________